تكمله
رأي الدكتور محمد قطب في الصوفية والتصوف (1)


وفي الجاهلية يأنس الناس للوسطاء ؛ لأنهم – في هبوطهم وانغلاقهم – يحسون بالوحشة من الإله المنزه الذي لا تركه الأبصار ، فيأنسون للكائنات الوسيطة ، التي يتصورنها ذات طبيعة مزدوجة : ناسوت ولاهوت . . جانب بشري وجانب إلهي . . يلتقون مع البشر بجانبهم البشري ، ويلتقون بجانبهم الإلهي مع الإله ! ويكونون "محطة" في الطريق ، يتزود الناس فيها بالطاقة اللازمة لرحلة "الفضاء" ، إلى الأزلي اللانهائي الذي لا تدركه الحواس ولا تحده الحدود !!
من أجل هذه الانحرافات كلها، التي تشمل العقيدة والشعيرة والشريعة (1) . . ركز المنهج القرآني على تحديد هذه القضية تحديداً حاسماً ، وتنزيه العبادة من كل لون من ألوان الشرك يمكن أن يهجس في بال الإنسان . .
وقد رأينا – من تجربة الواقع – أن هذه الهواجس قد ألمت بالأمة الإسلامية ذاتها ، بعد فترة من تنزيه العبادة ، والارتفاع بها إلى المستوى اللائق بجلال الله ، واللائق بالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ..
فقد جاءت الصوفية ببدع كثيرة تفسد صفاء العقيدة وصفاء العبادة . .
ولا نتحدث هنا عن الخبل الواضح في فكرة الإتحاد ، والحلول ، ووحدة الوجود ، مما يتنافى تنافياً كاملاً مع التوحيد الذي جاء به الرسل جميعاً ، وعلى رأسهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وهذا التفكير – في حقيقته – نتاجٌ وثني صريح جاء من الهند أو من فارس أو من أي مكان في الأرض . .
إنما نتحدث عن بدع آخرى نشأت مع الصوفية ، هي عبادة الأضرحة والأولياء ، وتضخيم الشيخ في حس المريد حتى يصبح وسيطاً بينه وبين الله . . وتوجيه ألوان من العبادة إلى أولئك " المشايخ" أحياء وأمواتاً لا يجوز توجيهها لغير الله .
إنها ردة جاهلية . .
صحيح أن الناس لا يعبدون صنماً منحوتاً كما كان يفعل المشركون يومذاك . . ولكن كيف نسمي التمسح بالأضرحة التماساً للبركة ، والدعاء عنده رجاء الاستجابة ، وطلب المعونة من صاحب الضريح ، والاستغاثة به من الكرب ، والإيمان بأنه ذو حظوة عند الله ، يستطيع بها أن يغير مجرى الأقدار ؟ ! أو الإيمان بأن الله قد عهد إلى الأقطاب والأبدال أن يتصرفوا في ملك الله ، فإذا استعطفهم مريدهم وتضرعوا إليهم صرّفوا الأمور لصالحهم ، وحموهم من الأخطار . .
ألم يكن مشركو الجزيرة يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفى } (2) ؟ ! أي : لا نعبدهم لذواتهم ولكن لما لهم من حظوة عند الله ؟ !
أما الشيخ والمريد فبدعة أخرى من بدع الصوفية الخطيرة . .
ولا يعنينا هنا أن نذكر كيف بدأت البدعة ، ولا أن العامة قد ارتموا في أحضان الصوفية لقلة العلماء المربين الذين يعلمون الناس دينهم على المنهج القرآني الواضح السهل البليغ المؤثر ، وعلى منهج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي يقرب الحقائق للناس حتى يتشربوها في يسر ، وترسخ في نفوسهم فلا يمحى أثرها . . إنما وجد العامة بدلاً من ذلك من يتكلم عن العقيدة كأنها معاظلات ذهنية تجريدية - وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية والأسماء والصفات – تجهد الذهن ولا تحرك القلب ، ووجدوا المتخصصين في الفقه يتحدثون فيه لا على أنه " دين " نزل لينظم حياة البشر على الأرض ، ويربط قلوبهم بالله وهم يأتمرون بأمره وينفذون تعاليمه ، ولكن كأنه قضايا جافة مبتوتة الصلة بالوجدان الحي . . لذلك هرب العامة من معاظلات علم الكلام في العقيدة ، ومن جفاف الدراسات الفقيهة ، إلى الملجأ الذي رأوه يشبع وجدانهم الروحي الظامئ ن وجدوا راحتهم النفسية التي افتقدوها هنا وهناك . .
ذلك يفسر ولا يبرر . . فلا شئ يبر الانحراف عن طريق الله القويم:
{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (3) .
جاء الإسلام ؛ ليغلى كل واسطة بين البشر وربهم ، وليعقد الصلة مباشرةً بين العبد والرب :
{ وقال ربكم ادعوني استجب لكم } (4) .
{ وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان} (5) .
وجاءت الصوفية ؛ لتجعل بين العبد وربه وسطاء وشفعاء ، سواء كانوا من الأموات أو الأحياء .
وجاء الإسلام ؛ ليخرج من هذه الأمة "علماء" و " فقهاء" يعلمون الناس أمر دينهم :
{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } (6) .
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (7) .
وجعل أولئك العلماء والفقهاء أئمة ومعلمين ومربين ، وقدوة للناس ، ولم يجعلهم "كهنة" يختصون "بالطقوس" . . ذلك أنه لم يكن عقيدة وشعائر فحسب . . إنما كان عقيدة وشريعة ومنهجاً كاملاً للحياة ، لذلك يحتاج الناس في ظله إلى علماء وفقهاء يعلمونهم أصول دينهم ومحتوياته ومتطلباته . . أما حين يكون عقيدة فحسب ، وطقوساً تتعلق بالعقيدة ، فهنا يظهر "الكهنة" ؛ ليكونوا وسطاء بين الناس وربهم ويظل الوسيط يتضخم في حسهم حتى يخرج عن طبيعته البشرية الخالصة ، ويصبح حسهم مزدوج الطبيعة فيه ناسوت ولاهوت!
جاء الإسلام ؛ ليجعل الدين خالصاً لله ، وجاءت الصوفية ؛ لتحوّل الشيخ في حس المريد إلى وسيط بين الناس وربهم ، بحجة أنه مبارك عند الله ، ترجى بركته ؛ ليقرب الناس إلى الله زلفى ، وليجعل الله يحيطهم برحمته ، فكأنما له شركة في الأمر مع الله ، مع أن الله قال لرسوله الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : {ليس لك من الأمر شئ} (8) !

وجاء الإسلام ؛ ليقرر بشرية الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، بشرية خالصة ، لا يخالطها شئ من "اللاهوت"، فغلت الصوفية في حبه وتعظيمه ، حتى جعلت كأنما خلق الله الخلق ؛ ليشاهدوا الأنوار المحمدية ، وليس أن الله بعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – لهداية البشرية :
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (9) .
ثم جعلوا من هذا التعظيم ذاته وسيلة لتضخيم الشيخ في حس المريد ، بدعوى أن الشيخ يرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في منامه ، ويلتقي منه مباشرة كلاماً يقوله للناس !! (10) .

المصدر: كتاب "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة" ص 57 - 60

___________________________________
(1) سنتكلم في الفقرة القادمة (ثالثاً) عن المقتضى التشريعي للا إله إلا الله .
(2) الزمر: 3 .
(3) الأنعام: 153 .
(4) غافر: 60 .
(5) البقرة: 186 .
(6) فاطر : 28 .
(7) التوبة: 122 .
(8) آل عمران: 128 .
(9) الأنبياء: 107 .
(10) ينبغي أن نذكر - للحق - أن ليس كل من ينتمي للصوفية تقع منه هذه الانحرافات ، وأن هناك ممن ينتسبون للصوفية من كان سليم العقيدة وعاملاً في الأرض بمقتضى الشريعة ومجاهداً في سبيل الله ، وهؤلاء في الحقيقة من "الزهاد" وغن أخذوا سمت الصوفية .


اختارها وجمعها
أبو عمر الدوسري (المنهج) - شبكة الدفاع عن السنة