كلام الله الذي هو صفة ذاته لا يجوز أن يكون حرفًا ولا صوتًا ولا لغة لأنّ اللغات مخلوقة حادثة وُجدت بعد أن لم تكن والخالق سبحانه لا يجوز أن يتّصف بصفة حادثة وذلك لأن الاتّصاف بصفة حادثة تغيّر والتغيّر أقوى علامات الحدوث، والحدوث مستحيل على الله. وقول الله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} معناه: أزال الله المانع عن سمع موسى، فسمع كلام الله من غير أن يحلّ الكلام الأزليّ في أُذن موسى، فموسى عليه السلام حادثٌ وسمعُه مخلوق وأمّا مسموعهُ وهو كلام الله فليس بحادثٍ.
فإن قال قائلٌ فما هو القرءان إذًا؟ فيقال له: القرءان بمعنى اللفظ المنزّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو شيء وجده جبريل عليه السلام في اللوح المحفوظ وخَلَقَ الله تعالى صوتًا بألفاظ هذا القرءان سمعه جبريل وأُمر أن ينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا اللفظ مخلوق والمُعبّر عنه وهو صفة الله (الكلام) ليس مخلوقًا. وتقريب ذلك لو كتب كاتب حروف لفظ الجلالة (الله) فقال له شخص: ما هذا؟ يقول: الله، وهو لا يعني أنّ الخالق هو هذه الحروف إنّما يعني أنّ هذه الحروف تدلّ على الخالق.
ويدلّ على أنّ كلام الله يُطلق على معنى اللفظ المُنزّل قول الله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} فلا شك أنّ الكافر لا يسمع كلام الله بمعنى صفته القائمة بذاته وإلا لكان كليم الله كموسى، إنما يسمع ألفاظ القرءان المنزلة التي لا شك أنها مخلوقة، وقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} معناه إذا قرأه جبريل بأمرنا فاتّبع قراءته، فلا شك أنّ جبريل مخلوق وقراءته مخلوقة، معناه أنّ ألفاظ القرءان هي مقروء جبريل ولا شك أنّ مقروء جبريل مخلوق ولا شك أنّه لا يقال عن الله رسول كريم.
وأما إنكار الإمام أحمد أن يقال "القرءان مخلوق" فذلك حتى لا يُتوهم أنّ صفة الله القائمة بذاته مخلوقة، أمّا في مقام التعلّم فيثبيّن الأمر على هذا الوجه، وهو أنه يقال القرءان له إطلاقان:
1- الإطلاق الأول: يُطلق ويُراد به كلام الله الذي هو صفته، فهذا ليس حرف ولا صوت ولا لغة لأن الحروف متعاقبة والتعاقب علامة الحدوث، فمن قال (
الرحمن الرحيم) نطق بالباء ثم السين ثم الميم وهكذا.
2- الإطلاق الثاني: يُطلق على القرءان ويُراد به اللفظ المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لا شك أنه مخلوق، قال الله تعالى {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} وهذا صريح في إطلاق كلام الله على اللفظ المنزّل، إذ الكفّار يريدون تغيير اللفظ المنزّل لا الصفة الذاتية لأنه ليس في استطاعتهم أن يغيروا صفة الله الذاتية كالكلام والقدرة وغيرها.
والقرءان بمعنى اللفظ المنزل المقروء هو مقروء جبريل وليس مقروء الله تعالى والدليل على ذلك من القرءان قوله تعالى {إنَّه لقولُ رسولٍ كريم} جعل القرءان قولَ جبريل، فلو كان الله تعالى هو تكلَّم به بالحرفِ والصوتِ كما نحن نتكلَّمُ به عند قراءتنا ما قال {إنَّه لقولُ رسول كريم} بل قال "إنّه لقولي". وكل شىء يحدث ثم ينقطع فهو من صفاتِ الخلق التي هي دلائل على أنّ الله تعالى لا يتغيّر.
المعتزلة لا تعتقد ان لله كلاماً هو صفة له بل تعتقد أن الله متكلم بكلام يخلقه في غيره وهذا كفر لا شك فيه. ومن الادلة أن الإمام احمد رحمه الله كان يخاطب المعتصم بقول يا أمير المؤمنين فلو كان المعتصم يقول بخلق القرءان بالمعنى الذي قالته المعتزلة لما قال له يا امير المؤمنين. وقد شهد شيخ المعتزلة ثمامة بن أشرس فقال" إن المامون لم يوافقهم في القول بخلق القرءان".
قال الامام ابو حنيفة النعمان في الفقه الأكبر والوصية [والقرءان كلام الله غير مخلوق ، ووحيه وتنزيله على رسول الله . وهو صفته على التحقيق . مكتوب في المصاحف ، مقروء بالألسنة ، محفوظ في الصدور غير حال فيها . والحبر والكاغَد والكتابة والقراءة مخلوقة لأنها أفعال العباد . فمن قال بأن كلام الله مخلوق فهو كافر بالله العظيم].
وقال في الفقه الأبسط [ويتكلم لا ككلامنا . نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بِلا ءالة ولا حرف . فصفاته غير مخلوقة ولا محدثة ، والتغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين ومن قال إنها محدثة أو مخلوقة أو توقف فيها أو شك فيها فهو كافر]. وهذه الرسائل الخمس ثابتة عن أبي حنيفة كما قال خاتمة الحفاظ مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدّين: إنها ثابتة بالأسانيد الصحيحة.
وقال الشيباني في شرح الطحاوية [والحرف والصوت مخلوق، خلق الله تعالى ليحصل به التفاهم والتخاطب لحاجة العباد إلى ذلك أي الحروف والأصوات، والبارىء سبحانه وتعالى وكلامه مستغن عن ذلك أي عن الحروف والأصوات، وهو معنى قوله: "ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر] اهـ.
وقال القونوي شارح الطحاوية [إن الله خلق صوتاً بهيئة ألفاظ القرءان فسمعه جبريل فقرأه على النبي]
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في رسائله في التوحيد ص12[فالله متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادا في اللوح والاوراق شكلا ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور من أفعالهم أن تكون قديمة ويجب احترامها لدلالتها على كلامه كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته، إلى أن قال فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شيء من ألفاظ العباد أو رسم من أشكال المداد]