سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية صحيحة، وهي أصح ترجمة حفظها التاريخ لنبي من الأنبياء، فقد ضاعت خلال الزمن سير الأنبياء والمصلحين، وأصبحنا نجد اليوم بين أتباعهم من ينكر وجودهم التاريخي من أساسه، فهناك بين المسيحيين الأميركيين من ينكر وجود المسيح، ويدّعي أن ما يتناقله الناس عن حياته أساطير انحدرت إليهم من بقايا وثنية الروم واليونان!
وقد استمرت المعركة الجدلية أشهرًا في واحدة من مجلات شيكاغو حول حقيقة المسيح التاريخي، وقد بذل رينان أقصى جهوده ليقف على قصة حياة كاملة لعيسى عليه السلام، ومع ذلك لا تزال دقائق حياته سرًا مكنونًا في ضمير الزمن، وعيسى عليه السلام هو النبي الذي يعيش في ضمائر الملايين من أتباعه المثقفين المتعلمين في الدنيا، فكيف بسِيَر المصلحين الآخرين من أمثال زرادشت وبوذا وكونفوشيوس!
إن كثيرًا من النقاد اليوم يشكون في شخصياتهم ووجودهم التاريخي، ونحن لا نستطيع إلى اليوم أن نحدد العصر الذي عاش فيه رزادشت صاحب المجوسية، وإلى اليوم لا يستطيع مؤرخ أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخ حياة بوذا أو حياة كونفوشيوس، وكل ما يعرف الناسُ عن هؤلاء أوهامًا تنهار وتتهافت عند أول تحقيق!
أما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سيرته وصلت إلينا، وهي تفصل دقائق حياته، وتقص علينا نبأ كل صغيرة وكبيرة منها، وقد دهش المستشرقون لذلك فقال أحدهم -رينان- بصراحة: "حياة مؤسس الإسلام معروفة عندنا معرفة حياة المصلحين في السادس". والحق أننا نعرف اليوم معرفة كاملة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ويشرب ويلبس وينام، كيف كان يعيش في بيته، ومع الناس، وفي المسجد والسوق، وفي السلم والحرب، بل نحن نستطيع أن نتمثل صورته الشخصية صلى الله عليه وسلم تمثلاً حيًا من خلال الأوصاف الدقيقة التي حملتها إلينا كتب الحديث عنه.
فلننظر إلى هذه الصورة التي تكاد تغني عن الرسم الفوتوغرافي:
"كان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الربعة، وأما لونه فقد كان أزهر، ولم يكن بالآدم الأسمر، ولا بالأمهق الشديد البياض، وأما ما كان ظاهرًا للشمس والرياح كالوجه والرقبة والآذان فقد كان مشربًا بالحمرة، وأما شعره فقد كان رجْلاً ليس بالسبط ولا بالجعد القطط، و كان يضرب إلى منكبيه، وقيل أنه كان يبلغ شحمة أذنيه، وربما فرق شعر رأسه فرقتين: فرقة عن يمينه وفرقة عن يساره، وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ، ولن شعره أسود، ولم يبلغ شيب رأسه ولحيته عشرين شيبة"(1).
وكان صلى الله عليه وسلم حسن الوجه كضوء البدر، أدعج العينين، في بياضهما عروق حمر رقاق، أزج الحاجبين سابغهما، أهدب الأشفار، وكان مستوي الأنف، حسن الثغر واسع الفم مفلج الأسنان، وكان من أحسن الناس شفتين وألطفهم ختم فم، وكان سهل الخدين صلبهما، وليس بالطويل الوجه ولا المكلثم المدور، كث اللحية، يعفي لحيته ويأخذ من شاربه، وكان أحسن عباد الله عنقًا، وكان عريض الصدر، عظيم المنكبين أشعرهما، ضخم الكراديس، واسع الظهر، ما بين كتفيه خاتم النبوة، وهو مما يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، وكان عبل الذراعين والعضدين، وطويل الزندين، رحب الراحتين، طويل الأصابع، عبل ما تحت الإزار من الفخذين والساق، وكان معتدل الخلق في السمن، بَدُنَ في آخر زمانه(2).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي خلقًا وخُلقًا»(3).
فمحمد صلى الله عليه وسلم إذًا شخصية تاريخية لا سبيل إلى أدنى الريب في وجودها، ذلك أن سيرته لدينا معروفة منذ نعومة أظفاره إلى أن اختاره الله لجواره، ولا سيما تاريخ الفترة التي أدى فيها رسالة ربه، وإن في دراستنا لهذه السيرة الفائقة ثقافة تاريخية، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي التاريخ الحق الصحيح لفترة الإسلام، وهي الصورة الواقعية للانقلاب المحمدي الذي حقق لأمتنا العربية أول وحدة قومية في تاريخهم، والذي جمع المسلمين على هدف واحد، وقاد ركبهم المظفر لإنقاذ البشرية التائهة ودفعها نحو النور والحرية والحق.
(2) الفائدة الأخلاقية
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية، وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضل طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام! فمن حقنا إذًا أن نتخذ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا لسلوكنا في حياتنا، و{لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وحياة محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة: في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان الخ.. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل الحي لنا، نحن المسلمين، مثل حي من لحم ودم، نقتدي بخطواته ونهتدي بهديه، ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حيًّا لها، فسيرة محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، ولهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشئونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئًا من حلقات الحياة، وهي أيضًا سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن"(4).
لم يُتَح لغير محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء أصحاب الرسالات، أو لغيره من المصلحين أصحاب الدعوات، أن يعلّموا أتباعهم تعليمًا عمليًا: فالمسيح عليه السلام لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه مثال الزوج الكامل لأنه لم يتزوح قط، وهو لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه المثل الأعلى الكامل للحاكم الإداري العالم لأنه من يحكم قط، بل كان مغلوبًا على أمره، ظلمه الرومان وضيقوا عليه وطاردوه، ولقد كان لعيسى أم، والإنجيل يخبرنا أن له أخًا وأختًا، ولكننا لا نجد في سيرة عيسى اليوم شيئًا عن معاملته أهله وذويه وأسرته لتكون هذه المعاملة أسوة لأتباعه.
وموسى عليه السلام لا نعرف من سيرته إلا صورًا من قتاله وقيادته في الحرب وشجاعته فيها، كما ترسمها الأسفار الخمسة من التوراة، أما النواحي الأخرى فلا نتبيّنها بوضوح -كما يقول بحق الأستاذ سليمان الندوي- كالحقوق في أمور الدنيا والفرائض والواجبات، فكيف يستطيع إذًا أتباعه أن يلتمسوا لسلوكهم في كل ذلك أسوة من سيرته.
وكذلك كيف يستطيع أتباع بوذا -وهم يعدون ربع سكان المعمورة- أن يتخذوا من سيرته قدوة عملية لهم، والتاريخ لم يحفظ من سيرته غير عدة أقاصيص وحكايات لا ترسم غير ظلال باهتة من حياته.
أما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان حريصًا على أن يربي أتباعه تربية عملية حين كان يأخذ نفسه بالتطبيق العملي المثالي لكل ما يدعو إليه، حتى إذا لم يبدأ مرة بنفسه أولاً يجد من المسلمين ترددًا في تنفيذ ما يدعو إليه، وكذلك تردد المسلمون في نحر الهدْي والحلق والتقصير يوم صلح الحديبية، على الرغم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، حتى لفتت أم سلمة رضي الله عنها نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لم يبدأ بنفسه أولاً، فهو قد أمرهم بالنحر والحلق ولكن لم ينحر بعد، ولم يحلق أو يقصر، ليكون القدوة العملية لأصحابه، كما هو شأنه في كل أمر من أمور حياته، فأسرع عليه السلام ينحر ويحلق، وأسرع المسلمون يأتمون به دون تردد.
ولهذا نجد بين المذاهب الأربعة مذهبًا –هو مذهب الإمام مالك- يرجّح السُّنّة العملية، وهي ما تسمى في أصول مذهبه بعمل أهل المدينة -أي ما توارثه هؤلاء عن آبائهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم-، يرجحها على السنة المروية عن طريق الآحاد، حسب اجتهاده، وهذه السنة العملية هي التي صححت لأبي يوسف رأيه في الوقف، ذلك أن أبا يوسف كان أولاً على رأي شيخه أبي حنيفة في عدم القول بجواز الوقف، فلما جاء أبو يوسف إلى المدينة ولقي فيها الإمامَ مالكًا، بيّن له هذا أن السنة العملية جرت على إقرار الوقف، وأخبره أن في المدينة عددًا من ورثة صحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أوقفوا لذراريهم أوقافًا معروفة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره، ثم استدعى الإمام مالك بعضًا منهم فشهدوا أمام أبي يوسف بتوارثهم أوقافًا لهم، أبًا عن جد، فتراجع عند ذلك أبو يوسف رحمه الله وقال: "لو كان صاحبي –يعني شيخه أبا حنيفة- حيًا لرجع عن قوله".
إن في دراسة السيرة إذًا فائدة أخلاقية سلوكية، فحياة النبي صلى الله عليه وسلم ترسم المنهاج السلوكي للمسلمين، ولهم {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
(3) الفائدة الدينية
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مصدر من مصادر الشريعة الإسلامية، ذلك أن جانبًا كبيرًا من مقومات شريعتنا وشعائرها توضحه حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتنيره أعماله، وتقدم له التفسير العملي. فدراسة السيرة إذًا تنمي إيماننا تزيدنًا بصرًا بحقائق ديننا القويم، وتعمّق فهمنا لكتاب الله وتعيننا على تفسيره. والقرآن الكريم في معنى من معانيه كتاب تعبدي، نتلوا آياته في صلواتنا، ونحن مأمورون بقراءته وتدبره، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تيسر لنا السبيل إلى إحسان تدبره وفهمه، كما تشرح لنا أحكام الفرائض وتطبيقاتها
فالسّنّة العملية هي التي تفصل أحكام الزكاة وتشرحها، وتفصل كيفية الوضوء وأعمال الصلاة وتبين مناسك الحج، والنبي عليه السلام هو الذي يقول حين توضأ فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي»(5). ويقول أيضًا: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»(6)، ويقول في الحج: "خذوا عني مناسككم"(7).
والقرآن الكريم عندما أجملَ أكثر الأحكام، واكتفى ببيان الخطوط الرئيسية منها، ترك لسيرة النبي تفصيل ما أجمل وبيان ما لم يتعرض له، إما بتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي أو بأقواله أو بإقراره لأفعال بعض صحابته، فقد ورد في حديث عمرو بن العاص الله عنه قال: كنت في غزوة ذات السلاسل، فأصابتني جنابة في ليلة بادرة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فتيممت وصليتُ بأصحابي الصبح، فلما رجعنا إلى المدينة ذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو! صليتَ بأصحابك وأنت جنب! فقلت: يا رسول الله، ذكرتُ قولَ الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29]، فتيممتُ وصليت. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا(Cool.
وهكذا أثبتت السنة العملية حكمًا تعبديًا لم يتعرض له القرآن الكريم وهو جواز تيمم الجنب مع وجود الماء إن خشي الهلاك. فالسيرة العملية إذًا هي التبيين لأحكام القرآن، وصدق الله العظيم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
هذه هي الفوائد العظيمة التي يجنيها المسلم في مدرسة السيرة، فهي تقدم له ثقافة تاريخية موثوقة، وترسم له مُثُلاً أخلاقية سلوكية عملية، وتزيد وعيه الديني، وتبصّره بحقائق الإسلام وكتبه العظيم.