الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ لهُ النِّعمةُ وله الفضلُ ولهُ الثَّناءُ الحسن صلواتُ اللهِ البَرِّ الرحيمِ والملائِكةِ المُقرَّبينَ على سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أشرفِ المرسلينَ.
أما بعدُ عباد الله فإن الله عَزَّ وَجَلَّ أرسل محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا الذي رحمنا ببعثة محمد وأنزل على قلب حبيبه محمد: (وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ والمُنَفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم وَتَوَكَلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) الأحزاب/ 48.
اللَّهُمَّ صَلّ وَسَلِمْ وَبَارِكْ عَلَى سيّدِنا مُحمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا مُحمَّدٍ المنـزل عليه: ( لَقَد جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحيمٌ) التوبة / 128.
إِخوة الإيمان ها نحن في شهر ربيع الأول، الشهر الذي شع فيه نور النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ففي الثاني عشر من شهر ربيع الأول كان مولد خير الكائنات محمد عليه الصلاة والسلام. والاحتفالات تتوالى والخطب في مدح نبينا عليه الصلاة والسلام تتكاثر، والأناشيد والأشعار في مدح خير البرية تتعالى، تعلو بها حناجر المنشدين رغم أنوف نفاة التوسل المشبهة، رغم أنوف المجسمة مبغضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى في القرءان الكريم: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم وَلَكِن رَّسولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِيِّنَ) الأحزاب / 40.
هو محمد الذي جعل الله خُلُقَه القرءان، هو محمد الذي يرضى بما يرضاه القرءان ويتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه ويلتزم أوامره ولا ي
لنفسه إلا إذا ارتكبت محارم الله.
هو محمد الذي بعثه الله الرحمن بالإرفاق أي رفقًا بهذه الأمّة لكي يتمّم مكارم الأخلاق، هو محمد الذي هو أشجع الناس أي أقواهم قلبًا وأكثرهم جراءة لملاقاة العدوّ ، هو محمد الذي ما سئل عن شىء قطّ يعني عن أي حاجة من متاع الدنيا يباح إعطاؤها فقال لا إلا إذا كان شيئًا لا يَجِدُهُ، هو محمد الذي كان أصدق الناس لهجة وأَوْفَى الناس ذمة وأحسنَ الناس معاشرة. فاللهُ تَباركَ وتعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم من محاسن الأخلاق أعلى رتبة.
نَظَرُه للأرضِ منه أكثرُ إلى السماءِ خافِضٌ إذْ يَنْظُرُ
كان نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، يعني نظره إلى الأرض حالَ السكوت وعدمِ التحدث أطول من نظره إلى السماء، أما حالَ التحدثِ يرفع طرفَه إلى السماء (أيْ إشارةً إلى أنّ السماءَ قبلةُ الدعاء ومهبطُ الرَّحَماتِ والبركاتِ والوحْيِ) ، وكان لا يثبّت بصره في وجه أحد لشدّة حيائه، هو محمّد الذي كان أكثر الناس تواضعًا وكان أشدّ الناس لأصحابه إكرامًا لهم ومن ذلك أنه كان لا يمدّ رجله بين جلسائه احترامًا لهم، وكان أرحم الناسِ بكلِّ مؤمن، ولا يختص برحمته من يعقل فقط بل تعمّ رحمته حتى من لا يعقل كالوحش والطير، حتى الهرّة تأتيه فيُصْغي لها الإناء (أي يُمِيلُه) لتشرب (حتى يُسْهُل عليها أن تشرب منه) وكان يفعل ذلك غير مرة بل كل هرّة أتته يفعل بها ذلك ، هو محمّد الذي كان يمشي مع المسكين والأرملة إذا أتياه في حاجة ما.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه مؤانسة لهم وتآلفًا لِما كانوا عليه من شدّة، فكان يمازحهم تخفيفًا عليهم لكنه لا يقول إلا حقًا لأنه معصوم عن الكذب.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس في الأكل مع العبيد الأرقاء ويتشبه بهم في الجلوس للأكل فلا يترفع عليهم ويقول: "إنما أنا عبد ءاكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد".
وقد دلّت الآية الكريمة على أخلاقه، قال الله تعالى: (وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم / 4. وعن عائشة رضي الله عنها قالت عندما سُئلت عن خُلُق رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: "فإنَّ خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرءان" رواه مسلم في الصحيح.
وعن عائشة رضي اللهُ عنها عندما سئلت عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح أو قالت: يعفو ويغفر"، شك أبو داود.
أما أخبار كرمه وسخائه فعديدة منها ما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين، فأتى قومه فقال: أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة".
أما أخبار زهده وتواضعه واختياره الدار الآخرة فكثيرة منها ما رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه عن عبد الله أنه قال: اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأَثر الحصير بجلده، فجعلتُ أمسحه عنه وأقول بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ألا أذِنتنا فنبسط لك شيئًا يقيك منه تنام عليه، فقال: "ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
فقد كان صلى الله عليه وسلم متصفًا بصفات حسنة من الصدق، والأمانة، والصلة، والعفاف، والكرم، والشجاعة، وطاعة الله في كل حال وأوانٍ ولحظة ونفس، مع الفصاحة الباهرة والنصح التام، والرأفة والرحمة، والشفقة والإحسان، ومواساة الفقراء والأيتام والأرامل والضعفاء، وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعًا، يحب المساكين ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، هذا كله مع حسن السَّمت والصورة، والنسب العظيم، قال الله تعالى: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) سورة الأنعام / 124.
مُحَمَّدٌ تَحِنُ إليهِ الأفئدةُ وتقر بِهِ العيونُ وتأنسُ بهِ القلوبُ، فَكلامُهُ نُورٌ وَ مَدخَلُهُ نورٌ ومخرَجُهُ نورٌ وَعَمَلُهُ نور، إن سَكَتَ علاه الوقَارُ وإن نطق أخذ بالقلوب والبصائر والأبصار.
إني عشقت محمدًا قرشيًا حُبًّا يفوق محبتي أبَويَّا
ماذا أُحَدِّثُ عن جمال محمّد أرني كمثل الهاشمي ذكيَّا
وكيف لا أعشق مُحَمَّدًا، فهو الذي كان يجالِسُ الفقراء والمساكين والعبيد والإماء ويعودهم ويزورهم ويتفقَّد حالهم ويشهد جنائزهم، وكيف لا أعشق مُحَمَّدًا وكلامه بَيِّنٌ ظاهرٌ يفصل بين الحق والباطل، يرضى بما يرضاه القرءان، ويتأدَّبُ بآدابه ويتخلَّقُ بأخلاقه ويلتزم أوامره، وكيف لا أعشق مُحَمَّدًا وهو أكثر الناس حياءً وأدبًا مع ربه ولا يقول في حالة الرضا وال
إلا الحق قطعًا، لعصمته، فإنه معصوم لا ينطق إلا بالحق، وكان يعظ الناس أي يخطبهم بالجد والاجتهاد ويذكرهم بآيات الله ويخوفهم من عقابه، فكان إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتد
ه حتى كأنه منذر جيش أي قوم يُصَبّحهم عدوهم، وكان إذا سُرَّ استنار وجهه من السرور بدرًا أي قمرًا كاملاً، وكيف لا أعشق مُحَمَّدًا وهو:
حين يرحم فهو أشفق راحمٍ أو جاد كان الأجود العَرَبيَّا
وإلى هرقل أتى رسول محمدٍ برسالة دوَّت هناك دويًّا
فانظر وأخبرني بأي شجاعةٍ بعث الرسول إلى هرقل أخَيَّا
ومحمدي قد مات ومحمدي قد مات
لكن لم يزل في قبره في أرضِ طَابَةَ حَيَّا
أحبابنا الكرام، إِنَّ حُبنا وعشقنا لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يدفعنا في كل زمان ومكان إلى الالتزام بالشرع الحنيف وهو القائل في حديثه الشريف: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود. فالأعمال لا تقبل إلا أن توافق الشريعة وموافقة الشرع وعدم موافقته لا يعرف إلا بالعلم، والعلم لا يؤخذ إلا من أفواه العلماء، ولا تكفي مطالعة الكتب بغير تلق من أفواه العلماء بل كثير من الناس الذين يضلون سببه أنهم لا يتلقون علم الدين من أفواه العلماء بل يعتمدون على المطالعة في مؤلفات العلماء فكيف الذي يطالع في الكتب التي حشيت بالأحاديث المكذوبة والأخبار المعلولة والغلو المذموم والكذب على الدين والتجسيم والتشبيه أي تشبيه الله بخلقه والعياذ بالله تعالى.
ومن أشهر هذه الكتب المدسوسة الكتاب المسمى مولد العروس الذي قيل فيه إن الله قبض قبضة من نور وجهه فقال لها كوني محمدًا فكانت محمدًا، وفي هذه العبارة نسبة الجزئية لله تعالى وهو تبارك وتعالى منَزه عن الجزئية والانحلال. قال تعالى: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) الإخلاص / 3.
فهو لا يقبل التعدد والكثرة ولا التجزء والانقسام والله منَزّه عن ذلك لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شىء من خلقه:(لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى / 11.
وحكم من يعتقد أن محمدا أو غيره جزء من الله أنه ليس بمسلم عند الله.
وهذا الكتاب المسمى مولد العروس ليس من تأليف ابن الجوزي لأن ابن الجوزي من كبار علماء أهل السنّة والجماعة عقيدته أنّ الله ليس جسمًا كثيفًا يجس باليد كالشجر والحجر والبشر وليس جسمًا لطيفًا لا يجس باليد حتى يضبط كالضوء والظلام والريح ولا يوصف بصفات الأجسام كالحركة والسكون.
في هذه الأيام يحتفل المسلمون بذكرى مولد سيد العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتانا بشرع عظيم بيّن فيه الحلال والحرام، بيّن فيه الواجب والمندوب والمكروه والباطل والصحيح، فطوبى لمن تعلم دين الله وطبق على نفسه وعلّم والديه وزوجته وأولاده وأحبابه وجيرانه ممن يسمعون النصح، أليس الله تعالى يقول: (قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والَّذِينَ لاَ يّعلَمُونَ) الزمر /9.
فواظبوا على حضور مجالس علم الدين والزموا أحكام دين الله تعالى تكونوا حقيقة ممن يتبعون الرسول النبي الأمي الاتباع الصحيح الكامل، أما مجرد حفظ الأناشيد وتوزيع الحلوى والأطعمة ونشر الزينة هنا وهناك من غير أداء الواجبات واجتناب المحرمات فهذا لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أن نؤدي الواجبات ونجتنب المحرمات التي نهى الله عنها، وإظهار هذه الشعائر مجردًا عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات لا يُغني، بل لا بد من أداء الواجبات واجتناب المحرمات، فلسنا نقرّ الطائفة الوهابية التي تُحرّم على المسلمين الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لا نقرّ أولئك المطربين الذين ينشدون ويطربون الناس بأصواتهم ولا يؤدون الواجبات ويجتنبون المحرمات فاتّباع النبي صلى الله عليه وسلم يكون بأداء الواجبات واجتناب المحرمات.