شرح مجلة الاحكام العدلية
الْمَادَّةُ
1 ) : الْفِقْهُ : عِلْمٌ بِالْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ
الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ .
وَالْمَسَائِلُ
الْفِقْهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَهِيَ
الْعِبَادَاتُ ، وَإِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدُّنْيَا ، وَهِيَ
تَنْقَسِمُ إلَى مُنَاكَحَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَعُقُوبَاتٍ ، فَإِنَّ
الْبَارِيَ تَعَالَى أَرَادَ بَقَاءَ هَذَا الْعَالَمِ إلَى وَقْتٍ
قَدَّرَهُ ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ ،
وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ازْدِوَاجِ الذُّكُورِ مَعَ الْإِنَاثِ
لِلتَّوَلُّدِ وَالتَّنَاسُلِ ، ثُمَّ إنَّ بَقَاءَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ
إنَّمَا يَكُونُ بِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْأَشْخَاصِ .
وَالْإِنْسَانُ
بِحَسَبِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ يَحْتَاجُ لِلْبَقَاءِ فِي الْأُمُورِ
الصِّنَاعِيَّةِ إلَى الْغِذَاءِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ ، وَذَلِكَ
أَيْضًا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّشَارُكِ بِبَسْطِ بِسَاطِ
الْمَدَنِيَّةِ ، وَالْحَالُ أَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَطْلُبُ مَا يُلَائِمُهُ
وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يُزَاحِمُهُ ، فَلِأَجْلِ بَقَاءِ الْعَدْلِ
وَالنِّظَامِ بَيْنَهُمْ مَحْفُوظَيْنِ مِنْ الْخَلَلِ يُحْتَاجُ إلَى
قَوَانِينَ مُؤَيَّدَةٍ شَرْعِيَّةٍ فِي أَمْرِ الِازْدِوَاجِ ، وَهِيَ
قِسْمُ الْمُنَاكَحَاتِ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ ، وَفِيمَا بِهِ
التَّمَدُّنُ مِنْ التَّعَاوُنِ وَالتَّشَارُكِ وَهِيَ قِسْمُ
الْمُعَامَلَاتِ مِنْهُ ، وَلِاسْتِقْرَارِ أَمْرِ التَّمَدُّنِ عَلَى
هَذَا الْمِنْوَالِ لَزِمَ تَرْتِيبُ أَحْكَامِ الْجَزَاءِ ، وَهِيَ قِسْمُ
الْعُقُوبَاتِ مِنْ الْفِقْهِ .
وَهَا هُوَ ذَا قَدْ بُوشِرَ تَأْلِيفُ
هَذِهِ الْمَجَلَّةِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ فِي
الْمُعَامَلَاتِ غِبَّ اسْتِخْرَاجِهَا وَجَمْعِهَا مِنْ الْكُتُبِ
الْمُعْتَبَرَةِ وَتَقْسِيمِهَا إلَى كُتُبٍ وَتَقْسِيمِ الْكُتُبِ إلَى
أَبْوَابٍ وَالْأَبْوَابِ إلَى فُصُولٍ ، فَالْمَسَائِلُ الْفَرْعِيَّةُ
الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا فِي الْمَحَاكِمِ هِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي
سَتُذْكَرُ فِي الْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ
الْفُقَهَاءِ قَدْ أَرْجَعُوا الْمَسَائِلَ الْفِقْهِيَّةَ إلَى قَوَاعِدَ
كُلِّيَّةٍ كُلٌّ مِنْهَا ضَابِطٌ وَجَامِعٌ لِمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ ،
وَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ مُسَلَّمَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكُتُبِ
الْفِقْهِيَّةِ تُتَّخَذُ أَدِلَّةً لِإِثْبَاتِ الْمَسَائِلِ
وَتَفَهُّمِهَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ فَذِكْرُهَا يُوجِبُ الِاسْتِئْنَاسَ
بِالْمَسَائِلِ وَيَكُونُ وَسِيلَةً لِتَقَرُّرِهَا فِي الْأَذْهَانِ ،
فَلِذَا جُمِعَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ قَاعِدَةً فِقْهِيَّةً وَحُرِّرَتْ
مَقَالَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
ثُمَّ
إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إذَا انْفَرَدَ
يُوجَدُ مِنْ مُشْتَمِلَاتِهِ بَعْضُ الْمُسْتَثْنَيَاتِ لَكِنْ لَا
تَخْتَلُّ كُلِّيَّتُهَا وَعُمُومُهَا مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ لِمَا
أَنَّ بَعْضَهَا يُخَصِّصُ وَيُقَيِّدُ بَعْضًا .
الْفِقْهُ - عِلْمٌ
بِالْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ
أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ ، وَيُقْصَدُ بِلَفْظَةِ الْعِلْمِ بِهَذَا
التَّعْرِيفِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ .
الْمَسَائِلُ - جَمْعُ مَسْأَلَةٍ - وَهِيَ الْمَطْلُوبُ الَّذِي يَحْتَاجُ إثْبَاتُهُ إلَى بُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ .
الْحُكْمُ
- هُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ ، وَقَدْ
عَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِأَنَّهُ الشَّيْءُ الثَّابِتُ بِنَاءً
عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ ، مِثْلُ الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ .
مَوْضُوعُ عِلْمِ الْفِقْهِ - وَإِنَّ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْفِقْهِ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ .
الْمُكَلَّفُ
فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ - هُوَ الْعَاقِلُ ، فَالْمَجْنُونُ
وَالصَّبِيُّ لَمْ يُعَدَّا مُكَلَّفَيْنِ وَإِنْ تَكُنْ الْمَادَّةُ ( 916
) تَقْضِي بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ إلَّا أَنَّ الْمُخَاطَبَ
بِذَلِكَ الْوَلِيُّ ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ بِحَقِّهِ .
الشَّرْعِيَّةُ
- أَيْ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ وَلَا تُدْرَكُ بِدُونِهِ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ أَوْ
بِنَظِيرِهِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّظِيرُ مَقِيسًا عَلَى نَفْسِ
الْحُكْمِ وَيَكُونُ نَفْسُ الْحُكْمِ مَقِيسًا عَلَيْهِ الشَّارِعُ - هُوَ
الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَبِمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَاسِطَةٌ
لِتَبْلِيغِ الْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ :
شَارِعٌ ، وَالشَّارِعُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمَقْصُودُ فِي الْمَجَلَّةِ
هُوَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْعَمَلِيَّةُ
- أَيْ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَفْعَالِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا عِلْمُ
الْعَقَائِدِ وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ .
قَوْلُهُ
مِنْ أَدِلَّتِهَا أَيْ الْعِلْمُ بِتَدْقِيقِ الْأَدِلَّةِ ، وَيَخْرُجُ
بِهِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ ، وَعِلْمُ الرُّسُلِ ، وَعِلْمُ الْأَشْيَاءِ
الضَّرُورِيَّةِ مِنْ الدِّينِ .
قَوْلُهُ الْمَسَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ -
احْتِرَازًا عَنْ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِكَ ( الْعَالَمُ
حَادِثٌ ) وَالْمَسَائِلُ الْحِسِّيَّةُ ( كَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ )
وَالْمَسَائِلُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ كَقَوْلِكَ ( الْفَاعِلُ مَرْفُوعٌ ) .
مَصَادِرُ عِلْمِ الْفِقْهِ - أَرْبَعَةٌ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ .
الْمَسَائِلُ
الْفِقْهِيَّةُ - قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهِيَ
الْعِبَادَاتُ ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ يَخْتَصُّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا
وَمُقَسَّمٌ إلَى مُنَاكَحَاتٍ ، وَمُعَامَلَاتٍ ، وَعُقُوبَاتٍ ، كَمَا
فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ .
الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ
الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ
الْفِقْهِيَّةِ ( الْمَادَّةُ 2 ) : الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا يَعْنِي :
أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى
مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ .
الْقَاعِدَةُ : لُغَةً
أَسَاسِ الشَّيْءِ وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْحُكْمُ
الْكُلِّيُّ أَوْ الْأَكْثَرِيُّ الَّذِي يُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ
الْجُزْئِيَّاتِ .
الطَّرِيقَةُ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْجُزْئِيَّاتِ -
وَالطَّرِيقَةُ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ الْقَاعِدَةِ
الْكُلِّيَّةِ هِيَ كَمَا يَلِي : قَاعِدَةُ ( الْقَدِيمُ عَلَى قِدَمِهِ )
الْكُلِّيَّةُ مَثَلًا وَجُزْئِيَّتُهَا ( إنَّ طَرِيقَ دَارِ زَيْدٍ
قَدِيمَةٌ ) فَيُسْتَخْرَجُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْعُمُومِيَّةِ أَنَّهُ مَا
دَامَتْ طَرِيقُ دَارِ زَيْدٍ قَدِيمَةً يَجِبُ أَنْ تَبْقَى عَلَى
قِدَمِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ الْقَدِيمِ
وَهَلُمَّ جَرًّا .
أُمُورٌ : جَمْعُ أَمْرٍ ، مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ
الْفِعْلُ وَالْحَالُ إذْ يُقَالُ أُمُورُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمَةٌ أَيْ
أَحْوَالُهُ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ { وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } يَقْصِدُ بِهِ حَالَ فِرْعَوْنَ .
الْأَمْرُ :
يَجِيءُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَيُجْمَعُ عَلَى
أَوَامِرَ ، وَهُنَا لَا يَقْصِدُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ يَقْصِدُ
بِالْأَمْرِ الْفِعْلَ وَيُجْمَعُ عَلَى أُمُورٍ ، وَبِمَا أَنَّ الْفِعْلَ
هُوَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ فَالْقَوْلُ أَيْضًا يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ
الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ جَارِحَةِ اللِّسَانِ .
وَهُنَا
قَدْ قُرِنَ الْفِعْلُ بِالْقَصْدِ فِي قَوْلِهِ : الْأُمُورُ
بِمَقَاصِدِهَا ، فَعَلَيْهِ النِّيَّةُ الَّتِي لَا تَقْتَرِنُ بِفِعْلٍ
ظَاهِرِيٍّ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ .
فَلَوْ
طَلَّقَ شَخْصٌ زَوْجَتَهُ فِي قَلْبِهِ أَوْ بَاعَ فَرَسَهُ وَلَمْ
يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ
الْبَاطِنِيِّ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَتَعَلَّقُ
بِالظَّوَاهِرِ .
وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ مَالًا بِقَصْدِ أَنْ
يُوقِفَهُ وَبَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى
وَقْفِهِ ذَلِكَ الْمَالَ فَلَا يَصِيرُ وَقْفًا .
كَذَلِكَ لَوْ نَوَى
شَخْصٌ غَصْبَ مَالِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَمْ يَغْصِبْهُ وَتَلِفَ ذَلِكَ
الْمَالُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَا يَضْمَنُ بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْغَصْبِ ،
وَلَوْ أَخَذَ الْمُودِعُ الْمَالَ الْوَدِيعَةَ بِقَصْدِ اسْتِهْلَاكِهَا
، ثُمَّ أَرْجَعَهَا إلَى مَوْضِعِهَا وَتَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا
تَقْصِيرٍ لَا يَضْمَنُ .
الْأَفْعَالُ بِلَا نِيَّةٍ : أَمَّا
الْأَفْعَالُ بِلَا نِيَّةٍ فَحُكْمُهَا كَمَا يَأْتِي : أَنَّ
الْأَلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَيَكْفِي حُصُولُ
الْفِعْلِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ الْأَفْعَالَ
الصَّرِيحَةَ تَكُونُ النِّيَّةُ مُتَمَثِّلَةً بِهَا .
مِثَالُ ذَلِكَ : لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ : بِعْتُك مَالِي هَذَا أَوْ أَوْصَيْتُ لَك بِهِ .
يَصِحُّ
الْبَيْعُ أَوْ الْوَصِيَّةُ ، كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ ، وَالْوَكَالَةَ
، وَالْإِيدَاعَ ، وَالْإِعَارَةَ ، وَالْقَذْفَ ، وَالسَّرِقَةَ كُلُّهَا
أُمُورٌ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ فِعْلُهَا يَكْفِي
لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ .
الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الصَّرِيحَةِ : أَمَّا فِي
الْأَلْفَاظِ غَيْرِ الصَّرِيحَةِ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ اللَّفْظِ
الْوَاحِدِ بِاخْتِلَافِ مَقْصِدِ الْفَاعِلِ كَالْبَيْعِ مَثَلًا إذَا
اُسْتُعْمِلَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَقَوْلِ الْبَائِعِ أَوْ
الْمُشْتَرِي ( أَبِيعُ وَأَشْتَرِي ) إذَا قَصَدَ بِهِ الْحَالَ
يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِذَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِقْبَالَ لَا يَنْعَقِدُ ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَبِاخْتِلَافِ الْقَصْدِ قَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ ،
وَأَمَّا صِيغَةُ الْمَاضِي فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَلَا يَتَوَقَّفُ
عَلَى النِّيَّةِ بِمَعْنَى الْحَالِ لِكَوْنِهَا مِنْ الصِّيَغِ
الْمُسْتَعْمَلَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْعُقُودِ الْمَقْصُودِ بِهَا
الْحَالُ .
كَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ لِآخَرَ بِقَوْلِهِ : لَك عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمَيْنِ .
فَإِذَا
كَانَ يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ هَذَا مَعَ دِرْهَمَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ
فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ
بِهِ الظَّرْفَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ إلَّا بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ .
كَذَلِكَ
لَوْ تَعَدَّى الْمُودِعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّي
يُنْظَرُ فَإِذَا كَانَ الْمُودِعُ يَنْوِي إعَادَةَ التَّعَدِّي فَهُوَ
ضَامِنٌ لَوْ تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ ،
وَأَمَّا إذَا كَانَ نَاوِيًا عَدَمَ الْعَوْدَةِ إلَى التَّعَدِّي فَلَا
يَضْمَنُ .
وَكَذَا الشَّخْصُ الَّذِي يُحْرِزُ مَالًا مُبَاحًا إذَا أَحْرَزَهُ بِقَصْدِ تَمَلُّكِهِ يُصْبِحُ مَالِكًا لَهُ وَإِلَّا فَلَا .
مِثَالُ
ذَلِكَ : لَوْ وَضَعَ شَخْصٌ إنَاءً تَحْتَ الْمَطَرِ وَتَجَمَّعَ فِيهِ
مَاءٌ فَإِذَا وَضَعَ ذَلِكَ الْإِنَاءَ بِقَصْدِ جَمْعِ الْمَاءِ
وَإِحْرَازِهِ يُصْبِحُ مَالِكًا لَهُ ، فَوَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ
اغْتَصَبَ الْمَاءَ أَحَدٌ يَضْمَنُهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْ وَضَعَ
الْإِنَاءَ بِقَصْدِ غَسْلِهِ بِمَاءِ الْمَطَرِ لَا بِقَصْدِ جَمْعِ
الْمَاءِ وَأَخَذَهَا أَحَدٌ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِنَاءِ
لَمْ يَمْلِكُ الْمَاءَ لِعَدَمِ سَبْقِ نِيَّةٍ مِنْهُ لِإِحْرَازِهِ ،
كَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ شَخْصٌ فَخًّا بِمَحَلٍّ وَوَقَعَ فِي الْفَخِّ
طَيْرٌ فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْفَخِّ نَصَبَ فَخَّهُ بِقَصْدِ الصَّيْدِ
فَالطَّيْرُ يَكُونُ مِلْكُهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ وَضَعَهُ بِقَصْدِ
التَّجْفِيفِ فِي الْهَوَاءِ فَالطَّيْرُ الَّذِي يَقَعُ فِي الْفَخِّ
يَكُونُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْفَخِّ ، فَإِذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ
مَا لَا يَحِقُّ لِصَاحِبِ الْفَخِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ .
كَذَا لَوْ
وَجَدَ شَخْصٌ لُقَطَةً - أَيْ مَالًا ضَائِعًا - فَإِنْ أَخَذَهُ
بِقَصْدِ تَمَلُّكِهِ يُعَدُّ غَاصِبًا فَوَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ تَلِفَ
بِيَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمَالِ
لِصَاحِبِهِ ، أَمَّا إذَا أَخَذَهُ بِقَصْدِ تَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ
وَتَلِفَ الْمَالُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ
يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَمِينِ .
( الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ
الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ
) هَذَا وَهَهُنَا بَعْضُ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ لَا تَتَبَدَّلُ
أَحْكَامُهَا نَظَرًا لِلْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ
أَخَذَ شَخْصٌ مَالَ آخَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ بِدُونِ إذْنِهِ
فَبِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْأَخْذِ يَكُونُ الْآخِذُ غَاصِبًا وَلَا يُنْظَرُ
إلَى نِيَّتِهِ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَقْصِدُ الْغَصْبَ بَلْ يَقْصِدُ
الْمُزَاحَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى شَخْصٌ عَمَلًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ
فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْخَسَارَةَ النَّاشِئَةَ عَنْ عَمَلِهِ ، وَلَوْ
حَصَلَتْ عَنْ غَيْرِ إرَادَةٍ مِنْهُ .
مِثَالُ ذَلِكَ : لَوْ أَنَّ
شَخْصًا شَاهَدَ سَكْرَانَ وَأَخَذَ النُّقُودَ الَّتِي يَحْمِلُهَا
بِقَصْدِ حِفْظِهَا مِنْ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ
الْغَاصِبِ وَيُصْبِحُ ضَامِنًا فِيمَا لَوْ تَلِفَتْ .
هَذَا وَبِمَا
أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ هِيَ قَوَاعِدُ أَكْثَرِيَّةٍ
وَأَغْلَبِيَّةٍ فَوُجُودُ بَعْضِ أَحْكَامٍ مُنَافِيَةٍ لِهَذِهِ
الْقَاعِدَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَا تَأْثِيرَ لَهَا .
( الْمَادَّةُ 3 ) :
الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا
لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي وَلِذَا يَجْرِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِي
الْبَيْعِ بِالْوَفَاءِ .
الْعَقْدُ : هُوَ ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْإِعَارَةِ إلَخْ .
اللَّفْظُ : هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِقَصْدِ التَّعْبِيرِ عَنْ ضَمِيرِهِ .
يُفْهَمُ
مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ أَنَّهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ لَا يُنْظَرُ
لِلْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْعَاقِدَانِ حِينَ الْعَقْدِ بَلْ
إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَقَاصِدِهِمْ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ الْكَلَامِ
الَّذِي يُلْفَظُ بِهِ حِينَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ اللَّفْظُ وَلَا الصِّيغَةُ
الْمُسْتَعْمَلَةُ وَمَا الْأَلْفَاظُ إلَّا قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي .
وَمَعَ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ التَّأْلِيفُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ
وَالْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ لَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْأَلْفَاظِ .
مِثَالُ
ذَلِكَ : بَيْعُ الْوَفَاءِ ، فَاسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ الْبَيْعِ فِيهِ
الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي أَثْنَاءَ
الْعَقْدِ لَا يُفِيدُ التَّمْلِيكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا
مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إنَّمَا هُوَ تَأْمِينُ دَيْنِ
الْمُشْتَرِي الْمُتَرَتِّبِ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ ، وَإِبْقَاءِ
الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِ الْمُشْتَرِي لِحِينِ وَفَاءِ الدَّيْنِ ،
وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ رَهْنٍ فَيَجْرِي
بِهِ حُكْمُ الرَّهْنِ وَلَا يَجْرِي حُكْمُ الْبَيْعِ .
فَبِنَاءً
عَلَى مَا تَقَدَّمَ يَحِقُّ لِلْبَائِعِ بَيْعًا وَفَائِيًّا أَنْ يُعِيدَ
الثَّمَنَ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ كَمَا أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْمُشْتَرِي
أَنْ يُعِيدَ الْمَبِيعَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ ، وَلَوْ كَانَ
الْعَقْدُ بَيْعًا حَقِيقِيًّا لَمَا جَازَ إعَادَةُ الْمَبِيعِ
وَاسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ إلَّا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى
إقَالَةِ الْبَيْعِ .
مِثَالٌ ثَانٍ : لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ مِنْ (
بَقَّالٍ ) رِطْلَ سُكَّرٍ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذِهِ السَّاعَةَ أَمَانَةً
عِنْدَك حَتَّى أُحْضِرَ لَك الثَّمَنَ ، فَالسَّاعَةُ لَا تَكُونُ
أَمَانَةً عِنْدَ الْبَقَّالِ بَلْ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّهْنِ
وَلِلْبَقَّالِ أَنْ يُبْقِيَهَا عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ ،
فَلَوْ كَانَتْ أَمَانَةً كَمَا ذَكَرَ الْمُشْتَرِي لَحَقَّ لَهُ
اسْتِرْجَاعُهَا مِنْ الْبَائِعِ بِصِفَتِهَا أَمَانَةً يَجِبُ عَلَى
الْأَمِينِ إعَادَتُهَا .
مِثَالٌ ثَالِثٌ : لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ
وَهَبْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ أَوْ الدَّارَ بِمِائَةِ جُنَيْهٍ فَيَكُونُ
هَذَا الْعَقْدُ عَقْدَ بَيْعٍ لَا عَقْدَ هِبَةٍ وَتَجْرِي فِيهِ
أَحْكَامُ الْبَيْعِ .
فَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا تَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ .
مِثَالٌ
رَابِعٌ : لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ قَدْ أَعَرْتُك هَذَا الْفَرَسَ
لِتَرْكَبَهُ إلَى ( كوجك شكمجه ) بِخَمْسِينَ غرشا فَالْعَقْدُ يَكُونُ
عَقْدَ إيجَارٍ لَا عَقْدَ إعَارَةٍ رَغْمًا مِنْ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ
الْإِعَارَةِ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ هِيَ تَمْلِيكُ
مَنْفَعَةٍ بِلَا عِوَضٍ وَهُنَا يُوجَدُ عِوَضٌ .
مِثَالٌ خَامِسٌ :
لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ قَدْ أَحَلْتُكَ بِالدَّيْنِ الْمَطْلُوبِ
مِنِّي عَلَى فُلَانٍ عَلَى أَنْ تَبْقَى ذِمَّتِي مَشْغُولَةً حَتَّى
يَدْفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَك الدَّيْنَ .
فَالْعَقْدُ هَذَا لَا
يَكُونُ عَقْدَ حَوَالَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ هِيَ نَقْلُ ذِمَّةٍ إلَى
ذِمَّةٍ أُخْرَى وَهُنَا بَقِيَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مَشْغُولَةً ،
وَاَلَّذِي جَرَى إنَّمَا هُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ أُخْرَى فَأَصْبَحَ
الْمُحَالُ عَلَيْهِ كَفِيلًا بِالدَّيْنِ وَالْمَدِينُ أَصِيلًا .
مِثَالٌ
سَادِسٌ : لَوْ أَعْطَى شَخْصٌ آخَرَ عَشْرَ كَيْلَاتٍ حِنْطَةً أَوْ
عَشْرَ لِيرَاتٍ ، وَقَالَ لَهُ : قَدْ أَعَرْتُك إيَّاهَا فَيَكُونُ قَدْ
أَقْرَضَهَا لَهُ ، وَيُصْبِحُ لِلْمُسْتَعِيرِ حَقُّ التَّصَرُّفِ
بِالْمَالِ أَوْ الْحِنْطَةِ الْمُعَارَةِ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ
لِلْمُسْتَعِيرِ التَّصَرُّفُ بِعَيْنِ الْمَالِ الْمُعَارِ ، بَلْ لَهُ
حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ .
(
مُسْتَثْنَيَاتُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ) لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ
مُسْتَثْنَيَاتٌ وَهِيَ : لَوْ بَاعَ شَخْصٌ شَيْئًا لِآخَرَ مَعَ نَفْيِ
الثَّمَنِ بِقَوْلِهِ قَدْ بِعْتُك هَذَا الْمَالَ بِدُونِ ثَمَنٍ يَكُونُ
الْبَيْعُ بَاطِلًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَقْدُ هِبَةً كَذَلِكَ لَوْ آجَرَ
شَخْصٌ آخَرَ فَرَسًا بِدُونِ أُجْرَةٍ تُصْبِحُ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً
وَلَا تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفِيدُ بَيْعَ
الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ ، وَالْعَارِيَّةُ تُفِيدُ عَدَمَ الْعِوَضِ
وَبِمَا أَنَّ بَيْنَ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ تَضَادًّا فَلَا يَجُوزُ
اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الْإِعَارَةِ .
( الْمَادَّةُ 4 )
: الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ نَعَمْ لِأَنَّ الْيَقِينَ
الْقَوِيَّ أَقْوَى مِنْ الشَّكِّ فَلَا يَرْتَفِعُ الْيَقِينُ الْقَوِيُّ
بِالشَّكِّ الضَّعِيفِ ، أَمَّا الْيَقِينُ فَإِنَّمَا يَزُولُ
بِالْيَقِينِ الْآخَرِ .
هَذِهِ الْمَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ
( مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ وَمَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ
لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ ) .
الشَّكُّ : لُغَةً مَعْنَاهُ
التَّرَدُّدُ ، وَاصْطِلَاحًا تَرَدُّدُ الْفِعْلِ بَيْنَ الْوُقُوعِ
وَعَدَمِهِ أَيْ لَا يُوجَدُ مُرَجِّحٌ لِأَحَدٍ عَلَى الْآخَرِ وَلَا
يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، أَمَّا إذَا كَانَ
التَّرْجِيحُ مُمْكِنًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، وَالْقَلْبُ غَيْرُ
مُطْمَئِنٍّ لِلْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ أَيْضًا فَتَكُونُ الْجِهَةُ
الرَّاجِحَةُ فِي دَرَجَةِ ( الظَّنِّ ) وَالْجِهَةُ الْمَرْجُوحَةُ فِي
دَرَجَةِ الْوَهْمِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ يُطَمْئِنُ لِلْجِهَةِ
الرَّاجِحَةِ فَتَكُونُ ( ظَنًّا غَالِبًا ) وَالظَّنُّ الْغَالِبُ
يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ .
( الْيَقِينُ ) : لُغَةً قَرَارُ
الشَّيْءِ يُقَالُ ( يَقِنَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ ) بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ
، وَاصْطِلَاحًا ( هُوَ حُصُولُ الْجَزْمِ أَوْ الظَّنِّ الْغَالِبِ
بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ ) وَقَدْ عَرَّفَهُ الْبَعْضُ (
هُوَ عِلْمُ الشَّيْءِ الْمُسْتَتِرِ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ )
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْإِيضَاحَاتِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الشَّكُّ فِي
شَيْءٍ عِنْدَ وُجُودِ الْيَقِينِ وَلَا الْيَقِينُ حَيْثُ يُوجَدُ
الشَّكُّ .
إذْ أَنَّهُمَا نَقِيضَانِ وَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ
النَّقِيضَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى وَضْعِ هَذِهِ
الْمَادَّةِ إذْ لَا مُوجِبَ لِوَضْعِهَا .
وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ
الْقَصْدَ هُنَا بِالشَّكِّ إنَّمَا هُوَ ( الشَّكُّ الطَّارِئُ ) بَعْدَ
حُصُولِ الْيَقِينِ فِي الْأَمْرِ فَلَا مَحَلَّ لِلِاعْتِرَاضِ بَتَاتًا .
هَذَا
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْيَقِينَ السَّابِقَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ
الطَّارِئِ وَأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ .
مِثَالُ
ذَلِكَ : إذَا سَافَرَ رَجُلٌ إلَى بِلَادٍ بَعِيدَةٍ فَانْقَطَعَتْ
أَخْبَارُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً ، فَانْقِطَاعُ أَخْبَارِهِ يُجْعَلُ شَكًّا
فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ ،
وَهُوَ حَيَاتُهُ الْمُتَيَقَّنَةَ قَبْلًا وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ
الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ اقْتِسَامُ تَرِكَتِهِ مَا
لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ يَقِينًا ، وَبِالْعَكْسِ إذَا سَافَرَ آخَرُ
بِسَفِينَةٍ وَثَبَتَ غَرَقُهَا فَيُحْكَمُ بِمَوْتِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ
مَوْتَهُ ظَنٌّ غَالِبٌ وَالظَّنُّ الْغَالِبُ كَمَا تَقَدَّمَ
بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ .
مِثَالٌ آخَرُ : لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ
بِمَبْلَغٍ لِآخَرَ قَائِلًا أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ لَك بِذِمَّتِي كَذَا
مَبْلَغٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّ
الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ فَمَا
لَمْ يَحْصُلْ يَقِينٌ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ لَا يَثْبُتُ الْمَبْلَغُ
عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ إذْ أَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَنْشَأْ مِنْهُ عَنْ
يَقِينٍ بَلْ عَنْ شَكٍّ وَظَنٍّ ، وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْيَقِينَ
بِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُقِرِّ كَمَا لَا يَخْفَى .
( الْمَادَّةُ 5 ) : الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ .
يَعْنِي
: يُنْظَرُ لِلشَّيْءِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ فَيُحْكَمُ بِدَوَامِهِ
عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُدْعَى ( الِاسْتِصْحَابُ ) وَقَاعِدَةُ الْقَدِيمِ عَلَى قِدَمِهِ فَرْعٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
الِاسْتِصْحَابُ
: هُوَ الْحُكْمُ بِتَحَقُّقِ وَثُبُوتِ شَيْءٍ بِنَاءً عَلَى تَحَقُّقِ
وَثُبُوتِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ،
وَالِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا حُجَّةٌ مُثَبِّتَةٌ ، وَهُوَ
عَلَى قِسْمَيْنِ : ( اسْتِصْحَابُ الْمَاضِي بِالْحَالِ ) وَ (
اسْتِصْحَابُ الْحَالِ بِالْمَاضِي ) .
اسْتِصْحَابُ الْمَاضِي
بِالْحَالِ : هُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِبَقَائِهِ عَلَى الْحَالِ
الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ
عَلَى خِلَافِهِ وَيُقَالُ لَهُ اسْتِصْحَابُ ( الْمَاضِي بِالْحَالِ ) .
اسْتِصْحَابُ
الْحَالِ بِالْمَاضِي : هُوَ اعْتِبَارُ حَالَةِ الشَّيْءِ فِي الزَّمَنِ
الْحَاضِرِ أَنَّهَا حَالَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْمَاضِي مَا لَمْ
يَثْبُتْ خِلَافُ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ .
مِثَالُ ذَلِكَ : لَوْ ثَبَتَ
تَحَقُّقُ شَيْءٍ فِي الْمَاضِي ، ثُمَّ حَصَلَ شَكٌّ فِي زَوَالِ ذَلِكَ
الشَّيْءِ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ كَالْمَفْقُودِ مَثَلًا ، وَهُوَ
الَّذِي يَغِيبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً إذَا حَصَلَ شَكٌّ فِي الْوَقْتِ
الْحَاضِرِ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ ، فَبِاسْتِصْحَابِ الْمَاضِي
بِالْحَالِ يُحْكَمُ بِحَيَاةِ الْمَفْقُودِ إذْ أَنَّهَا الشَّيْءُ
الْمُتَحَقِّقُ فِي الْمَاضِي فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ وَلَا
قِسْمَةِ تَرِكَتِهِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ أَوْ
تَنْقَرِضْ أَمْثَالُهُ بِوُصُولِهِ سِنَّ التِّسْعِينَ .
مِثَالٌ ثَانٍ
: لَوْ ادَّعَى الْمَدِينُ إيصَالَ الدَّيْنِ لِلدَّائِنِ ، وَالدَّائِنُ
أَنْكَرَ الْإِيصَالَ ، فَالْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ لِلدَّائِنِ ؛ لِأَنَّ
الدَّيْنَ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمَدِينِ فِي الْمَاضِي فَيُحْكَمُ
تَبَعًا لِقَاعِدَةِ اسْتِصْحَابِ الْمَاضِي بِالْحَالِ عَلَى الْمَدِينِ
بِتَأْدِيَةِ الْمَبْلَغِ بَعْدَ حَلِفِ الدَّائِنِ الْيَمِينَ ، وَهَذَا
إذَا لَمْ يُثْبِتْ الْمَدِينُ وُقُوعَ الْإِيصَالِ .
هَذَا
وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ بِالْمَاضِي كَمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ
حَالُ الشَّيْءِ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ مَعْلُومًا إلَّا أَنَّهُ
يُوجَدُ شَكٌّ فِي عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْوَقْتِ الْمَاضِي .
مِثَالُ
ذَلِكَ : لَوْ اخْتَلَفَ شَخْصَانِ عَلَى مَاءٍ يَسِيلُ مِنْ دَارِ
أَحَدِهِمَا إلَى دَارِ الْآخَرِ فِي كَوْنِهِ قَدِيمًا أَوْ حَدِيثًا
وَعَجَزَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا عَنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُمَا فَيُنْظَرُ
إلَى حَالِ الْمَسِيلِ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ فَإِذَا ثَبَتَ جَرَيَانُ
الْمَاءِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَسِيلِ يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ
عَلَى الْحَالِ الَّتِي وُجِدَ عَلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ طَاحُونًا وَادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ
الْإِجَارَةِ انْقِطَاعَ الْمَاءِ عَنْ الطَّاحُونِ مُدَّةً وَطَلَبَ
تَنْزِيلَ الْأُجْرَةِ عَنْ الْمُدَّةِ الَّتِي انْقَطَعَ فِيهَا الْمَاءُ
وَصَاحِبُ الطَّاحُونِ ادَّعَى عَدَمَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ فَتَحْكُمُ
الْحَالُ الْحَاضِرَةُ ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا وَقْتَ
الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ بِالْمَاضِي
وَالْقَوْلُ لِلْمُؤَجِّرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَبِالْعَكْسِ لَوْ كَانَ
الْمَاءُ مَقْطُوعًا فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
كَذَا
لَوْ أَنْفَقَ الْأَبُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الْغَائِبِ فَادَّعَى الْوَلَدُ
أَنَّ وَالِدَهُ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْإِنْفَاقِ وَطَلَبَ ضَمَانَةَ
الْمَبْلَغِ الَّذِي صَرَفَهُ ، فَيُنْظَرُ إلَى الْحَالِ الْمَاضِي
فَإِذَا كَانَ الْوَالِدُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ ، وَإِذَا كَانَ مُوسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الِابْنِ .
وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُسْتَثْنَى ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْأَمِينَ يُصَدَّقُ يَمِينُهُ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ ، فَلَوْ ادَّعَى
الْمُودَعُ أَنَّهُ أَعَادَ الْوَدِيعَةَ أَوْ أَنَّهَا تَلِفَتْ فِي
يَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ يُقْبَلُ ادِّعَاؤُهُ مَعَ يَمِينِهِ
مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ بِمُقْتَضَى قَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ أَنْ
يُعَدَّ الْأَمِينُ مُكَلَّفًا بِإِعَادَةِ الْأَمَانَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ
إعَادَتُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَالَ الْمَاضِيَ هُوَ وُجُودُ الْأَمَانَةِ
عِنْدَ الْمُودِعِ .
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَمِينَ يَدَّعِي
هُنَا بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ الضَّمَانِ ، وَأَمَّا الْمُودِعُ فَهُوَ
يَدَّعِي شَغْلَ ذِمَّةِ الْأَمِينِ ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ .
( الْمَادَّةُ 6 ) : الْقَدِيمُ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ .
يَعْنِي
: أَنَّ الْقَدِيمَ الْمُوَافِقَ لِلشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ عَلَى
حَالِ الْقَدِيمِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ
الشَّيْءِ مُدَّةً طَوِيلَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ عَلَى حَقٍّ
مَشْرُوعٍ فَيُحْكَمُ بِأَحَقِّيَّتِهِ - وَهَذِهِ الْمَادَّةُ
مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ ( مَا كَانَ قَدِيمًا يُتْرَكُ عَلَى حَالٍ
وَلَا يَتَغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ ) .
مَا هُوَ الْقَدِيمُ ؟ هُوَ
الَّذِي لَا يُعْرَفُ أَوَّلُهُ أَمَّا إذَا كَانَ أَوَّلُهُ مَعْرُوفًا
فَلَا يُعَدُّ قَدِيمًا مَثَلًا : لَوْ أَنَّ مِيزَابَ دَارِ شَخْصٍ
يَجْرِي مِنْ الْقَدِيمِ عَلَى دَارِ شَخْصٍ آخَرَ فَصَاحِبُ الدَّارِ
الثَّانِيَةِ لَا يَحِقُّ لَهُ مَنْعُهُ كَمَا وَأَنَّ بَالُوعَةَ دَارٍ
تَمُرُّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى فَصَاحِبُ الدَّارِ الثَّانِيَةِ لَا يَحِقُّ
لَهُ سَدُّ تِلْكَ الْبَالُوعَةِ وَمَنْعُ مُرُورِهَا مِنْ دَارِهِ ؛
لِأَنَّهُ مَا دَامَ ذَلِكَ قَدِيمًا يُعْتَبَرُ أَنَّ مُرُورَ ذَلِكَ
الْمَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا عَلَى حَقٍّ شَرْعِيٍّ ،
كَأَنْ كَانَتْ الدَّارَانِ مُشْتَرِكَتَيْنِ فَجَرَى تَقْسِيمُهُمَا
وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ التَّقْسِيمِ مُرُورُ مَاءِ إحْدَاهُمَا مِنْ
الْأُخْرَى .
أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ
فَلَا يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ مَهْمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ ؛ لِأَنَّ
الضَّرَرَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا .
مَثَلًا لَوْ أَنَّ بَالُوعَةَ دَارٍ
تَجْرِي مِنْ الْقَدِيمِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لَا يُنْظَرُ إلَى
قِدَمِهَا وَتُزَالُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ احْتِمَالُ
مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ .
( الْمَادَّةُ 7 ) : الضَّرَرُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا يَعْنِي : لَا يُعْتَبَرُ قِدَمُهُ وَلَا يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ .
هَذِهِ
الْمَادَّةُ تُفِيدُ حُكْمَ الْمَادَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا النَّاصَّةِ
عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ
قَيَّدَتْ تِلْكَ وَبَيَّنَتْ أَنَّ الْقَدِيمَ الَّذِي يُعْتَبَرُ هُوَ
الْقَدِيمُ غَيْرُ الْمُضِرِّ .
مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ أَنَّ أَقْذَارَ
دَارِ شَخْصٍ مِنْ الْقَدِيمِ تَسِيلُ إلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ
أَنَّ بَالُوعَةَ دَارِ شَخْصٍ تَسِيلُ إلَى النَّهْرِ الَّذِي يَشْرَبُ
مَاءَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ فَتُمْنَعُ وَلَا اعْتِبَارَ لِقَدَمِهَا ؛
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ احْتِمَالُ مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ
لِإِنْسَانٍ أَنْ يُجِيزَ حَقًّا يَكُونُ مِنْهُ ضَرَرٌ عَامٌّ .
( الْمَادَّةُ 8 ) : الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
يَعْنِي
: الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ ذِمَّةُ كُلِّ شَخْصٍ بَرِيئَةً أَيْ غَيْرَ
مَشْغُولَةٍ بِحَقٍّ آخَرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يُولَدُ وَذِمَّتُهُ
بَرِيئَةٌ وَشَغْلُهَا يَحْصُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُجْرِيهَا
فِيمَا بَعْدُ ، فَكُلُّ شَخْصٍ يَدَّعِي خِلَافَ هَذَا الْأَصْلِ يُطْلَبُ
مِنْهُ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَسَبَ الْمَادَّةِ ( 77
) تُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْ مُدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ وَخِلَافَ
الْأَصْلِ .
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَشْبَاهِ .
الذِّمَّةُ
تَعْرِيفُهَا : لُغَةً الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ إذْ أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ
وَالْأَمَانِ مُوجِبٌ لِلذَّمِّ وَفِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى النَّفْسِ
وَالذَّاتِ وَلِهَذَا فَسَرَّتْ الْمَادَّةُ ( 612 ) الذِّمَّةَ بِالذَّاتِ
.
وَالذِّمَّةُ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ .
مِثَالُ
ذَلِكَ : إذَا اشْتَرَى شَخْصٌ مَالًا كَانَ أَهْلًا لِتَمَلُّكِ
مَنْفَعَةِ ذَلِكَ الْمَالِ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا أَهْلًا
لِتَحَمُّلِ مَضَرَّةِ دَفْعِ ثَمَنِهِ الْمُجْبَرِ عَلَى أَدَائِهِ .
وَالذِّمَّةُ
وَإِنْ لَمْ تَكُ هِيَ نَفْسُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ فَلِلْعَقْلِ دَخْلٌ
فِيهَا ، وَلِذَا فَالْحَيَوَانَاتُ الْعُجْمُ لَا تُوصَفُ بِالذِّمَّةِ .
وَإِنَّ
الْقَوْلَ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ أَصْلٌ يُقْصَدُ بِهِ أَنَّ ذَاتَ
الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَرِيءٌ ، فَعِنْدَمَا
يُقَالُ تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنٌ يَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ
تَرَتَّبَ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ دَيْنٌ .
وَإِذَا تَعَارَضَتْ
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِقَاعِدَةِ ( الْأَصْلُ إضَافَةُ الْحَوَادِثِ إلَى
أَقْرَبِ أَوْقَاتِهَا ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ ؛
لِأَنَّ هَذِهِ أَقْوَى مِنْ تِلْكَ .
مِثَالُ ذَلِكَ : إذَا أَتْلَفَ
رَجُلٌ مَالَ آخَرَ وَاخْتَلَفَ فِي مِقْدَارِهِ يَكُونُ الْقَوْلُ
لِلْمُتْلِفِ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ لِإِثْبَاتِ
الزِّيَادَةِ .
مِثَالٌ آخَرُ : إذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ
بِقَرْضٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَرْضَ فَالْقَوْلُ
لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَالْمُدَّعِي مُكَلَّفٌ
بِإِثْبَاتِ خِلَافِ الْأَصْلِ أَيْ إثْبَاتِ شَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَيَكُونُ قَدْ
وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ حُكِمَ حِينَئِذٍ بِالْبَيِّنَةِ ،
كَذَلِكَ فِي مَوَادِّ الْغَصْبِ ، وَالسَّرِقَةِ ، الْوَدِيعَةِ الَّتِي
يَجُوزُ فِيهَا الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ ، كَأَنْ يُقِرَّ شَخْصٌ
مَثَلًا بِقَوْلِهِ : إنَّ فُلَانًا لَهُ عِنْدِي أَمَانَةٌ بِدُونِ ذِكْرِ
مِقْدَارِهَا فَيُجْبَرُ الْمُقِرُّ عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ مَا هِيَ
الْأَمَانَةُ وَمَا مِقْدَارُهَا ، فَإِذَا بَيَّنَ الْمُقِرُّ أَنَّ
تِلْكَ الْأَمَانَةَ فَرَسٌ أَوْ عَشَرَةُ قُرُوشٍ مَثَلًا ، وَالْمُقَرُّ
لَهُ ادَّعَى أَنَّهَا فَرَسَانِ أَوْ مِائَتَا قِرْشٍ فَالْقَوْلُ
لِلْمُقِرِّ مَعَ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ
لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ اعْتِرَاضٍ عَلَى
هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَدِينَ إذَا ادَّعَى أَنَّ
الدَّائِنَ أَبْرَأَهُ أَوْ أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ ، فَالْقَوْلُ
لِلدَّائِنِ مَعَ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّ الدَّائِنَ يَدَّعِي شَغْلَ
ذِمَّةِ الْمَدِينِ ، وَالْمَدِينُ يَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ فَكَانَ
الْوَاجِبُ حَسَبَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْمَدِينِ
.
وَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدَّائِنَ وَالْمَدِينَ هُنَا
مُتَّفِقَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَبِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ
أَصْبَحَ شَغْلُ الذِّمَّةِ أَصْلًا وَالْبَرَاءَةُ خِلَافَ الْأَصْلِ ،
فَالْمَدِينُ يَدَّعِي الْإِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ الَّذِي هُوَ خِلَافُ
الْأَصْلِ ، وَالدَّائِنُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا أَصْبَحَ
الْقَوْلُ لِلدَّائِنِ وَلَا مَجَالَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ رَاجِعْ
الْمَادَّةَ ( 77 ) .
( الْمَادَّةُ 9 ) : الْأَصْلُ فِي الصِّفَاتِ
الْعَارِضَةِ الْعَدَمُ مَثَلًا : إذَا اخْتَلَفَ شَرِيكَا الْمُضَارَبَةِ
فِي حُصُولِ الرِّبْحِ وَعَدَمِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ ،
وَالْبَيِّنَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِإِثْبَاتِ الرِّبْحِ .
هَذِهِ
الْقَاعِدَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَشْبَاهِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي
الْأَشْبَاهِ ( الْأَصْلُ الْعَدَمُ وَلَيْسَ الْعَدَمُ مُطْلَقًا
وَإِنَّمَا هُوَ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ ) .
يَعْنِي : أَنَّ
الْأَصْلَ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ هُوَ عَدَمُ وُجُودِ تِلْكَ
الصِّفَاتِ ، - أَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَالْأَصْلُ هُوَ
وُجُودُ تِلْكَ الصِّفَاتِ ، فَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ لِلَّذِي يَدَّعِي
الصِّفَاتِ الْأَصْلِيَّةَ ، وَأَمَّا الَّذِي يَدَّعِي الْعَدَمَ فَيَجِبُ
عَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى - شَخْصٌ فَرَسًا
وَاسْتَلَمَهُ فَادَّعَى أَنَّ فِيهِ عَيْبًا قَدِيمًا وَادَّعَى
الْبَائِعُ سَلَامَتَهُ مِنْ الْعُيُوبِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ مَعَ
الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ مِنْ الصِّفَاتِ الْأَصْلِيَّةِ ،
وَالْأَصْلُ فِيهَا الْوُجُودُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّفَاتِ
قِسْمَانِ : صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَصِفَةٌ عَارِضَةٌ ، فَاَلَّذِي يَدَّعِي
الصِّفَةَ الْأَصْلِيَّةَ فَالْقَوْلُ لَهُ ، وَاَلَّذِي يَدَّعِي
الصِّفَةَ الْعَارِضَةَ يَدَّعِي خِلَافَ الْأَصْلِ فَالْبَيِّنَةُ
عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْعَارِضَةُ : هِيَ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ مَعَ
الْمَوْصُوفِ وَلَمْ تَتَّصِفْ بِهَا ذَاتُهُ ابْتِدَاءً الصِّفَةُ
الْأَصْلِيَّةُ : هِيَ الَّتِي تُوجَدُ مَعَ الْمَوْصُوفِ .
مِثَالُ
ذَلِكَ : لَوْ بَاعَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ بَقَرَةً ، ثُمَّ طَلَبَ
الْمُشْتَرِي رَدَّهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ حَلُوبٍ ، وَالْبَائِعُ أَنْكَرَ
وُقُوعَ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَالصِّفَةُ الْأَصْلِيَّةُ
فِي الْبَقَرَةِ كَوْنُهَا غَيْرَ حَلُوبٍ وَصِفَةُ الْحَلْبِ طَارِئَةٌ ،
فَالْقَوْلُ هُنَا لِلْبَائِعِ الَّذِي يَدَّعِي عَدَمَ حُصُولِ هَذَا
الشَّرْطِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الَّذِي يَدَّعِي خِلَافَ الْأَصْلِ
إثْبَاتُ - مَا يَدَّعِيهِ .
مِثَالٌ آخَرُ : إذَا حَصَلَ اخْتِلَافٌ
بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَوْ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ
عَلَى اسْتِلَامِ الْمَبِيعِ أَوْ الْمُسْتَأْجَرِ فَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ -
الِاسْتِلَامِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ أَصْلٌ .
( مُسْتَثْنَيَاتٌ
مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ) لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُسْتَثْنَيَاتٌ -
وَهِيَ : ( 1 ) إذَا أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ عَنْ الْهِبَةِ
وَادَّعَى الْمَوْهُوبُ تَلَفَ الْهِبَةِ فَالْقَوْلُ لَهُ بِلَا يَمِينٍ ،
وَذَلِكَ حَسَبَ مَنْطُوقِ الْمَادَّةِ ( 1773 ) مِنْ أَنَّ تَلَفَ
الْهِبَةِ صِفَةٌ عَارِضَةٌ ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَكَانَ مِنْ
الْوَاجِبِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ
مُكَلَّفًا بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ الْمَوْهُوبَ
يُنْكِرُ هُنَا وُجُوبَ الرَّدِّ عَلَى الْوَاهِبِ فَأَصْبَحَ شَبِيهًا
بِالْمُسْتَوْدَعِ .
كَذَلِكَ إذَا تَصَرَّفَ الزَّوْجُ فِي مَالِ
زَوْجَتِهِ فَأَقْرَضَهُ آخَرُ وَتُوُفِّيَتْ الزَّوْجَةُ وَادَّعَى
وَارِثُهَا أَنَّ الزَّوْجَ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِدُونِ إذْنٍ وَطَلَبَ
الْحُكْمَ بِضَمَانَةِ ، وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ
بِإِذْنِهَا ، فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ مَعَ أَنَّ الْإِذْنَ مِنْ
الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ
لِلْوَارِثِ .
( الْمَادَّةُ 10 ) : مَا ثَبَتَ بِزَمَانٍ يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُزِيلُ .
هَذِهِ
الْقَاعِدَةُ مُطَابِقَةٌ لِقَاعِدَةِ ( الْأَصْلُ إبْقَاءُ مَا كَانَ
عَلَى مَا كَانَ ) وَمُتَمِّمَةٌ لَهَا ، وَهِيَ نَفْسُ قَاعِدَةِ
الِاسْتِصْحَابِ الَّتِي سَبَقَ شَرْحُهَا ، وَتَجْرِي فِيهَا أَيْضًا
أَحْكَامُ نَوْعَيْ الِاسْتِصْحَابِ ( اسْتِصْحَابُ الْحَالِ بِالْمَاضِي
وَاسْتِصْحَابُ الْمَاضِي بِالْحَالِ ) .
وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَادَّةِ :
أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي ثَبَتَ حُصُولُهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي
يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ فِي الْحَالِ مَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى
خِلَافِهِ وَالشَّيْءُ الثَّابِتُ وُجُودُهُ فِي الْحَالِ يُحْكَمُ أَيْضًا
بِاسْتِمْرَارِهِ مِنْ الْمَاضِي مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ .
أَمَّا
عِبَارَةُ ( مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُزِيلُ ) فَهِيَ قَيْدٌ فِي الْمَادَّةِ
يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْمُزِيلُ لَا يُحْكَمُ بِبَقَاءِ
الشَّيْءِ بَلْ يُزَالُ .
مِثَالُ ذَلِكَ : لَوْ ثَبَتَ مِلْكُ شَيْءٍ
أَوْ مَالٌ لِأَحَدٍ مَا ، يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْمِلْكِيَّةِ لِذَلِكَ
الشَّخْصِ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِأَنَّ الْمَالَ انْتَقَلَ مِنْهُ لِآخَرَ
بِعَقْدِ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ الْأَسْبَابِ
الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ أَمَّا لَوْ ثَبَتَ زَوَالُ الْمِلْكِيَّةِ
بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ مَثَلًا ، فَلَا يُحْكَمُ بِمِلْكِيَّةِ ذَلِكَ
الْمَالِ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ .
الِادِّعَاءُ : - يَقَعُ بِثَلَاثِ
صُوَرٍ ، وَالْإِثْبَاتُ يَقَعُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا : أَوَّلًا :
بِأَنْ يَدَّعِي الْمُدَّعِي الْمِلْكَ فِي الْحَالِ وَالشُّهُودُ
تَشْهَدُ عَلَى الْمَاضِي كَقَوْلِ الْمُدَّعِي ( إنَّ هَذَا الشَّيْءَ
مِلْكِي ، وَقَوْلِ الشُّهُودِ إنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَانَ مِلْكَهُ )
فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَا أَنَّ الشُّهُودَ لَا يُمْكِنُهُمْ
مَعْرِفَةُ بَقَاءِ الْمِلْكِ لِلْمَالِكِ إلَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ
فَشَهَادَتُهُمْ عَلَى مِلْكِيَّةِ الْمُدَّعِي فِي الْمَاضِي لَا
تُثْبِتُ مِلْكِيَّتَهُ فِي الْحَالِ وَمَعَ هَذَا تُقْبَلُ وَيُحْكَمُ
بِمُوجَبِهَا .
ثَانِيًا : إنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي الْمِلْكَ فِي
الْمَاضِي وَالشُّهُودُ تَشْهَدُ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ فِي الْحَالِ ،
فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ تَطْبِيقُهَا عَلَى
الِاسْتِصْحَابِ الْمَقْلُوبِ ، وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ بِالْمَاضِي .
ثَالِثًا
: إنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي وَالشُّهُودُ
تَشْهَدُ عَلَى الْمِلْكِ فِي ال