موعظة مؤثرة
مراد باخريصة
تمر بنا الأيام والليالي يومًا بعد يوم وليلة بعد ليلة فيبلى الجديد ويقرب البعيد وكل يوم يظهر في الحياة شأن جديد.
أيام تمر وليال تتكرر وأجيال تتعاقب فهذا مقبل وهذا مدبر وكلنا إلى الله سبحانه وتعالى سائر.
كل حي سيفنى وكل جديد سيبلى وكل شيء سينتهي ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27] فما هي إلا لحظة واحدة في غمضة عين أو لمحة بصر يبدل الله من حال إلى حال وتخرج الروح إلى بارئها فإذا العبد في عداد الموتى.
هذه هي الحقيقة الكبرى التي لا مفر منها ولا مهرب عنها مهما طال الزمان أو قصر ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8] إنه ملاقيكم في أي مكان تكون سيأتيكم ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78] فإلى الله نشكو قسوة قد عمت وغفلة قد طمت وأيامًا أضعناها قد انتهت وطويت.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري == إذا جنَ ليلُ هل تعيشَ إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غيرِ علةٍ == وكم من سقيمٍ عاش حينًا من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طولَ عمرِهم == وقد أُدخلت أجسادُهم ظُلمةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوها لزوجِها == وقد نُسجت أكفانُها وهي لا تدري
هذه هي الدنيا من عاش فيها مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5] يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" كان عمر رضي الله عنه يردد دائمًا ويقول: كل يوم يقولون مات فلان ومات فلان وسيأتي يوم وسيقولون مات عمر..
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لعالم من العلماء: عظني، فقال له: لست أول خليفة تموت قال: زدني قال: ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت وسيأتي دورك يا عمر.. وسيأتي دورك يا عمر.. فبكى عمر رحمه الله وخرَّ مغشيًا عليه.
هذه هي حقيقة هذه الدار التي سماها الله سبحانه وتعالى متاع الغرور فحياتها عناء ونعيمها ابتلاء وملكها فناء العمر فيها قصير والخطر المحدق كبير والمرء فيها بين حالين: حال قد مضى وسُطر وانقضى وأجل قد بقي لا ندري ما الله سبحانه وتعالى قاض لنا فيه ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾[غافر: 39] ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77] ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38] ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60].
يقول السباعي رحمه الله:
(من تعلق قلبه بالدنيا لم يجد لذة الخلوة مع الله، ومن تعلق قلبه باللهو لم يجد لذة الأنس بكلام الله، ومن تعلق قلبه بالجاه لم يجد لذة التواضع بين يدي الله، ومن تعلق قلبه بالمال لم يجد لذة الاقراض لله، ومن تعلق قلبه بالشهوات لم يجد لذة الفهم عن الله، ومن تعلق قلبه بالزوجة والولد لم يجد لذة الجهاد في سبيل الله، ومن كثرت منه الآمال لم يجد في نفسه شوقا إلى الجنة).
فكم نحن في حاجة يا عباد الله وخاصة ونحن في هذا الشهر الفضيل إلى أن نجدد الإيمان في القلوب ونزيل عنها غبار الغفلة والذنوب وأن نكثر من التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله فإن ﴿ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].
كم من حبيب ودعناه وكم من قريب دفناه وكم ممن نزلت به سكرات الموت عايناه فتراه ينظر إلى أهله وأولاده وأحبابه وينظرون إليه فيسمعهم ولا ينطق وينظر إليهم ولا يفعل وينظرون إليه وهم عاجزون عن إنقاذه ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 83 - 85] ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 19 - 22].
الموت في كل يوم ينشر الكف == نا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها == وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا == أين الذين همُ كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأسًا غير صافية == فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11] ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42].
(وكأن بالداعي يبكي عليه أقربوه.. وكأن القوم قاموا فقالوا أدركوه.. اسألوه كلموه حركوه لقنوه حركوه وجهوه مددوه غمضوه عجلوه غسلوه كفنوه حنطوه فإذا ما لف في الأكفان قالوا فاحملوه أخرجوه فوق أعواد المنايا شيعوه.. فإذا ما استودعوه الأرض رهنا تركوه.. خلفوه تحت رمس أوقروه.. أثقلوه أبعدوه أحقروه.. أوحدوه أفردوه ودّعوه.. فارقوه خلفوه أسلموه.. وانثنوا عنه وتركوه كأن لم يعرفوه).
عباد الله:
ليلتان اثنتان يجب على كل واحد منا أن يحفر لهما في ذاكرته وأن يجعلهما نصب عينيه ليلة في بيته منعمًا سعيدًا مع أهله وأطفاله في صحة جيدة وعيش رغيد وليلة تليها حل فيها الضعف محل القوة والحزن محل الفرح والسكرات محل الضحكات فلا القوة تنفع القوي ولا الذكاء ينفع الذكي ولا المال ينفع الغني يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20].
تأملوا عباد الله وأنتم تقرئون القرآن الكريم في هذا الشهر العظيم لنتأمل ونتدبر الآيات التي كررها الله في ذكر الموت والإخبار عن دناءة الدنيا وسرعة فنائها وانقطاعها والحث على الزهد فيها والترغيب في الآخرة والإخبار عن شرفها ودوامها وبقائها فهي آيات كثيرة وعظات بليغة كرر الله ذكرها في كتابه الكريم وكرر الحديث عنها في الذكر الحكيم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5، 6].
الخطبة الثانية
الدنيا سريعة الفَناء قريبة الانقضاء تعِدُ بالبقاء ثم تخلفُ في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرَّة وهي تسير سيرًا عنيفًا وترحل ارتحالًا سريعًا ولكنَّ الناظرَ إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها فلا يشعر بسرعتها إلا عند انقضائها يقول الله سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
هذه الدنيا هي دار المصائب والشرور فليس فيها لذة إلا وهي مشوبة بالكدر وليس فيها سرور إلا وهو متلبس بالمنغصات فشبابها يسوق إلى الهرم وسلامتها تعقبها السقم ونعيمها في النهاية حسرة وندم ووجودها إلى عدم إن أضحكتك يومًا أبكتك أيامًا وإن سرتك حينًا من الدهر أحزنتك أحيانًا.
لقد فجع الناس في الأسبوع المنصرم بالحادث الجلل والمصاب العظيم الذي حصل في هذه المنطقة نسأل الله أن يرحم من مات فيه ويتقبله في عداد الشهداء وأن يعجل للمصابين والجرحى بالشفاء وأن يخلفهم خيرًا ونحيي إخواننا وأبنائنا وفرساننا وشبابنا الذين هبوا ولبوا النداء وقاموا مع إخوانهم قومة رجل واحد فهكذا هي الدنيا تنتهي وتفنى ولن يبقى للإنسان إلا المعروف والذكر الجميل والفعل الحسن.
عباد الله:
إن في قوارع الدهر عبر وفي حوادث الأيام مزدجر وهذه الدنيا إنما هي دار ممر وإن الآخرة لهي الحيوان أي الحياة الدائمة الباقية لو كانوا يعلمون.
فعلينا أن نغتنم الأيام والساعات وخاصة هذه الأيام والليالي المباركة وأن نعمّرها بجلائل الأعمال الصالحة ونبتغي فيما آتانا الله الدار الآخرة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم".