الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وبعد
الطّبقاتُ الأربع الصّحابةُ والتّابعُون وأتباعُ التّابعِين وتبَعُ الأتباع هؤلاءِ خيرُ هذه الأمّةِ المحمّديّة. هذِه العَقيدةُ عقيدةُ أبي جَعفر الطّحاوي تُعَبّر عمّا كانَ عليه هؤلاء ومِن هؤلاءِ مِن وسَطِ هؤلاءِ أبو حنيفةَ النّعمان بنِ ثَابِت الكوفيّ. فإنّهُ أَدرَك مِن المائةِ الأولى شَيئًا ثم توفّي في منتَصف القَرن الثّاني وهوَ مِن أعلام ذلكَ العَصر شُهِر بعِلم الاعتقادِ بالتّنقّل في عِلم الاعتقاد والفِقهِ مِن شِدّة اعتنائه بعِلم الاعتقاد ألّف كتابًا سمّاه الفِقه الأكبر يشتَمِل على الاعتقاديات إعلامًا بأنّ عِلم العقيدةِ هو أفضلُ مِن عِلم الفِقه الفَرعيّ إذا قيلَ الفِقه في الدّين يَشمَلُ الاعتقاديّات ويَشمَل الأحكاميّات لكن أبا حنيفةَ أرادَ أن يميِّز الاعتقاديّات بالأفضليّة على ما سِواها مِن عِلم الدّين فسمّى كتابَه الذي ألّفَه في المعتقَد الفِقه الأكبر وهذا الكتاب الذي هو عبارةٌ عن بيَان ما كانَ عليهِ أهلُ السُّنَّة والجماعة فيه هذه الجُمَل الثّلاث الجملَة الأولى هيَ: "*تعَالى عن الحدودِ والغَايات والأعضاءِ والأركان والأدَوات*".
المعنى أنّ اللهَ تبارك وتعالى تَنـزّه عن الحَدّ أي ليسَ لهُ حَدّ أى ليس له حجم بالمرّة لأنّ الشّىءَ الذي له حَدٌّ يجِبُ انحِصَارُه في ناحيةٍ أو في مَكانٍ وليسَ معنى أنّ الله ليسَ لهُ حدّ أنّهُ محِيطٌ بغَيره إحَاطةً ذاتيّةً جِسمانيّةً. لأنّ هَذا تَشبيهٌ لله تعالى بخَلقِه يَستَلزم قَبُولَ الانقسام أي لأنّه لو كان مُحِيطًا بغَيره لكانَ لهُ أجْزاءٌ يَقبَلُ الانقسام إليها وكلُّ ما يَقبَلُ الانقِسامَ فهو محتاجٌ لغَيره والمحتاجُ لغَيره حادث لا يكونُ إلهًا لأنّ شَرْط الإلهِ أنْ لا يُشبِهَ غيرَه وأن يكونَ عالمًا بكُلّ شَىء وأن يكونَ قادرًا على كلّ شَىء وأن يكونَ نافذَ الإرادة في كلّ شَىء ولو كان اللهُ مُحيطًا بذاتِه بكلّ شَىء لكانَ قابلاً للانقسام وما يَقبَلُ الانقسامَ فهوَ محدث مخلوق لا يصح في العقل أن يكون إلهًا فمعنى قوله: "*تعالى عن الحدود*" ليسَ لهُ حَدٌّ بالمرّة أي ليسَ ذا مِقدَارٍ ومِساحةٍ قصيرةٍ أو كبيرة هو منـزّهٌ عن ذلك لذلكَ قال عنه أهلُ الحقّ: "*مَوجُودٌ لا كالموجودات*". هذا مِن أحسَن الجواب لو سُئل هذا السؤال ما اللهُ فيُقَال موجودٌ لا كالموجودات، ففي هذا تنـزيهٌ تامّ لأنّك لمّا قلتَ مَوجُودٌ أثبَتَّ وجُودَه ثم لما قلتَ لا كالموجودات نفَيتَ عنه أن يُشبِهَ غَيرَه وهذا هو عَينُ التّوحيد كما قال بعض العلماء مِن أهلِ السُّنَّة عبارةً أُخرى في هذا المعنى "*التّوحيدُ إثباتُ ذَاتٍ غَيرِ مُشبِهٍ للذّواتِ ولا مُعَطَّلٍ عَنِ الصِّفَات*". هذهِ العِبارة التي قالها بعضُ العُلماءِ مِن أهلِ السُّنَّة بمعنى هذه العِبارة الأولى: "*اللهُ مَوجُودٌ لا كالموجودات*". فقول الطّحاوي رحمه الله بيانًا لمعتقَدِ أهلِ السُّنَّة والجماعة أبي حنيفة النّعمان وصاحبَيه محمدِ بنِ الحسَن الشّيباني وأبي يوسف القاضي ومَن سِواهُم مِن أهلِ السُّنَّة والجمَاعة،
"*تعالى*" أي تنزّه اللهُ عن "*الحدود*" أي الحَدّ فلا يجُوز أن يقالَ في حَقّ الله تعالى إنّ لهُ حَدًّا لكن لا نَعلَمُ ذلكَ الحدّ هوَ يَعلَمُه، ولا نقولُ إنّ لهُ حَدًا يَعلَمُه هو ويَعلَمُه غيرُه مِن خَلقِه تلكَ العِبارتَان أي القولُ بأنّ الله لهُ حَدٌّ لا يَعلَمُه إلا هو والقول بأنّ لهُ حَدًّا يَعلَمُه هو ويعلَمُه غيرُه تلك العِبارتَين ضَلال، فالعِبارةُ الصّحيحَةُ هيَ ما رواه الطّحاويّ رحمَه الله عن أهلِ السُّنَّة والجماعةِ أنّهُ تعالى عن الحُدود المعنى أنّهُ ليسَ لهُ حَدٌّ بالمرّة فلا يقالُ إنّ لهُ حَدًا يَعلَمُه هو ولا أنّ لهُ حَدًّا يَعلَمُه هوَ وغَيرُه مِن خَلقِه كالملائكة الحافينَ حولَ العَرشِ وحملة العرش، الناسُ الذينَ ما دخَل التّنـزيهُ قلُوبهِم ما عرَفُوا تَنـزيهَ الله يَظُنُّونَ لما يَسمَعُونَ بحمَلةِ العَرش أو الملائكةِ الحافّينَ حَولَ العَرش يظُنُّونَ أنّ هؤلاء قَريبون منَ الله قُربًا مَكانيًّا قُربًا ذاتيًا وهذا مستَحيلٌ، لو كانَ اللهُ يصِحُّ أن يكونَ شىءٌ مِن خَلقِه قَريبًا منه قُربًا ذاتيًا قُربًا مَكانيًا لم يقُل ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيْد)) أي أعلَمُ بالعَبدِ مِن نَفسِه، أي نحنُ أقربُ مِن العبدِ مِن حَبلِ الوَريد أي منَ العِرْقِ الذي في جَانِبَي العُنق وهو قَد قالَ ذلكَ ليُفهِمَنا أنّه تبارك وتعالى لا يجُوز عليه القُربُ المسَافي ولا البُعدُ المسَافيّ. لو كانَ قولُه تعالى ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الورِيْد)) يُحمَلُ على ظاهِره لنَقَض هذا قوله تعالى: ((الرّحمنُ على العَرش استَوى)) فيما لو فُسّر كلا الآيتَين على ظاهِره ومعنى ((الرّحمنُ على العرش استوى)) أي قهَر العَرش وهو قاهرٌ لغيرِه بالأَولى.
فالقرآنُ يجبُ الإيمانُ بأنّه يُصادِقُ بَعضُه بَعضًا كما وصَف الله تبارك وتعالى قال: ((كِتَابًا مُتَشَابِهًا)). سمّى القرآنَ كتابًا متشَابهًا أي يُصَدّق بَعضُه بعضًا ليسَ فيه تنَاقُض. أي يُشبِهُ بَعضُه بَعضًا في الصّدْق وكُلُّه يُصَدّق بعضُه بعضًا.
الآخرةُ دارُ كَشف السَّرائر ما يُخفيْه العِبادُ هناكَ يَظهَر عَلانيَةً يَظهَر العَبدُ يومَ القيامة بما كان يَنطَوِي عليهِ باطنُه في الدّنيا، اللهُ تعالى قال: ((يَومَ تُبْلَى السَّرائر)) السّرائر تَنكَشِفُ يومَ القيامةِ، العقائدُ الفَاسدةُ والعقائدُ الحسَنة تَنكشِفُ هناك.
ومعنى قول المؤلف: "*تَعالى عن الحُدودِ والغَايات*" أي اللهُ تبارك وتعالى مُنَـزّه عن الغَايات وهو توضِيحٌ لقَوله "*تعالى عن الحُدود*" لأنّ الغَايةَ تُطلَق بمعنى الحَدّ فأرادَ تأكيدَ قوله "*تعالى عن الحُدود*" فأضافَ هذه العبارة. أي أنّ اللهَ تعالى ليسَ شيئًا محدودًا يَقبل الانقسام.
نقول الله أكبرُ: أي أكبرُ مِن كلّ كبيرٍ قدرًا وقُوَّةً. الله تعالى أقدَرُ مِن كلّ قَدير وأعظَمُ مِن كلّ عَظيم قَدْرًا.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى "*والأعضاء*". أي أنّ اللهَ تعالى مُنـزّه عن أن يكونَ لهُ عُضْو أي منـزَّه عن أن يكون له يدٌ بمعنى عُضو وعَينٌ بمعنى عُضو ورِجْل بمعنى عُضْو ووجهٌ بمعنى عُضو فلو كانَ لهُ عُضْو لكانَ مِثلَنا ولكانَ يجوزُ عليهِ الموت.
قال "*والأركان*" أي أنّ الله تعالى مُنـزَّهٌ عن أن يكونَ لهُ أركانٌ أي جوانِب. قال "*والأدوات*" يعني بالأدواتِ الأجزاءَ الصّغيرةَ كاللّسان في الإنسانِ فلا يجُوز أن يُوصَف اللهُ بالفَم والأنفِ واللّسان، أمّا إطلاقُ لَفظِ الوجْه واليَدِ والعَين فهو ورَد في النُّصُوص الشّرعيّة فنَحنُ نُطلِقُها على الله مع التّنـزيه نقول إذا ورَدَت علينا آية فيها ذِكْرُ العَين مُضَافَة إلى الله تعالى نقُول بلا كيف ((تَجْرِي بأَعيُنِنا)) بلا كيف. أي ليسَ كهذه الأعيُن التي يتَبادَر إلى أذهانِ الناس. كذلكَ إذا مَرّ علينا آية فيها ذِكْر الوجه في حَقّ الله تعالى نقولُ بلا كَيف إلا إذا كانَ هناك الآية صَريحة في حَمْل الوَجْه وتفسيره بالذّات ((ويَبقَى وجْهُ ربّك)) هنا الوجهُ معناهُ الذّات أي ذاتُ ربّك أي يبقَى ربُّك يا محمد الخِطابُ لمحمّد لأنّ القرآنَ أُنزِل على محمد ((كُلُّ مَن علَيها فَانٍ)) أي كلُّ مَن على الأرض فانٍ ((ويَبقَى وَجهُ رَبّك)) أي ذاتُ ربّك، هنا لا يُحمَلُ على الصّفة ليس معنى الوجْه هنا الصّفَة.
كذلك في قوله تبارك وتعالى ((إلاّ ابتغَاءَ وَجهِ رَبّهِ الأعلَى)) هنا نقُول معنى وجه ربِّهِ أي القُربَة مِن ربّه. فمَعنى قولِ بَعض المؤمنين عمِلتُ هذا لوَجه اللهِ قصَدْتُ به وَجْهَ الله معناهُ الاقترابَ مِن اللهِ بطَاعَته. وأمّا سِوى هؤلاء لم يرد في نصّ مِن نصُوص القرآن إطلاقُ لفظٍ مِن ألفاظِ الأعضاء والجوارح لم يرِد في القرآن ولا في سُنَّة أو في حديثٍ متَواتِر أو مَشهور.
لا يُقالُ لِسانُ الله، قالَ اللهُ بلِسَانِه، ولا يُقالُ قال رسولُ الله على لِسَان الله أو عن لِسَانِ الله، لا يُقال، لكنّهُ إنْ قالَ قائلٌ مِنَ المسلمينَ المنـزّهين للهِ تعالى عن أن يكونَ لهُ أعضاء وجوارح، كأن يقولَ قالَ رسولُ الله على لِسان الله أو تحَدُّث رسول الله على لسان الله فهذا نقُولُ لهُ اترُك هذا التّعبِير ولا نقُول لهُ كفَرتَ، لأنّهُ أثبَت علماءُ اللّغة إطلاقَ اللّسان بمعنى غَيرِ الجَارحة، فلذلكَ لا نقُول له كفَرتَ.
"*مَا أطلَقَ اللهُ على نَفسهِ أطلَقنَاه علَيهِ ومَا لا فلا*". هكذا قالَ بعضُ علماءِ أهل السُّنَّة. فمِمّا أطلَق اللهُ على نَفسِه الصّفات الكمَاليّة، القُدرَة أضَافَ القُدرةَ لنَفسِه والعِلْم وغَير ذلك منَ الصّفات الكمَاليّة وأمّا ما أطلقَه على نفسِه في القرآن منَ الوَجْه واليَدِ والعَين هؤلاء نُمِرُّها كما جاءت مِن دونِ تَشبيهٍ ولا كَيْف.
وقول المؤلف: "*ولاَ تَحْويْهِ الجِهاتُ كسَائرِ المبتَدَعَات*". الجهاتُ ستّ وهوَ ظَاهرٌ لا خَفاءَ فيه يعني أنّ اللهَ تعالى مُنَـزَّه عن أنْ تَحويْه الجِهات السّت.أمام وخلف ويمين وشمال وفوق وتحن أى الله موجود بلا جهة ولا مكان.
وقولُ المجَسّمة الضّالين إنّ اللهَ تباركَ وتَعالى انفَردَ عن غيرِه بكَونِه فوقَ العرشِ دَيمُومةً ذاتيّةً يُخالِف ما ورَدَ في الحَديث الصّحيح "*إنّ الله لما قضَى الخَلقَ كتَبَ في كتابٍ فهوَ موضُوعٌ عندَه فوقَ العَرش إنّ رَحمتي غلَبَت غَضَبي* هذا الحديث رواه البخاري وابن حبان وغيرهما. هذا الحديثُ يَرُدُّ مَقالتَهُم إنّه لا شىءَ منَ المحدَثات فوقَ العَرش لأنّه أثبَت أن فوقَ العَرش هذا الكتاب، هذا الكتابُ مِن جملَة الخلق. والعِندِيّةُ هنا المقصودُ بها عِنْدِيّة تَشريف ليس معناها أنّ هذا الكتاب واللهَ في مُسْتَوًى واحِد.
أي أنّ ذلكَ الكتابَ مَوضُوعٌ في المكانِ المشرَّف عندَ الله تبارك وتعالى لأنّ العَرشَ مِنَ العوالم الشّريفةِ وهذا الكتابُ فَوق هذا العَرش المجيد الكريم، العَرشُ وصفَه الله بأنّهُ مجِيدٌ لأنّه كَريمٌ، العَرشُ نَصِفُه بأنّهُ مَجِيدٌ لأنّ الله أَعلى قَدْرَه، لم يُعصَ اللهُ فيهِ، أمّا السّماءُ فقَد عصَى اللهَ فيها إبليسُ لمّا كانَ هناكَ يَعبُد اللهَ مع الملائكة ثم خلَق آدم في الجنّة، كانَ إبليسُ رآه في الجنّة رأى آدَم في الجنّة وأُمِرت الملائكةُ بالسّجود وكانَ إبليسُ مندَمجًا بينَ الملائكةِ شملَه الأمرُ الرّبّانيّ فسجَدَت الملائكةُ لآدَم تَعظيمًا وتحيّةً إلا إبليس أَبَى.
العرشُ لم يُعصَ اللهُ فيه بالمرّة، لأنّهُ ليسَ هناك مِن مخلوقاتِ الله إلا حملةُ العَرش والحَافّون حَولَهُ يَعبُدون الله يُسبّحُونَه ويُقَدّسُونَه ويَدْعُونَ لمن في الأرض منَ المؤمنين، ثم هذا الكتابُ هو اللوح المحفوظ، أو كتابٌ آخر مستَقلٌّ، كُتِبَت فيه هذه الكلمة "*إنّ رَحمَتِي غلَبَت غضَبِي*".
المعنى أنّ رحمةَ الله أكثرُ مِن غضَبِه. وقد قالَ بَعضُ العُلماء إنّ هذا الكتابَ تحتَ العرش، والرّاجحُ أنّه كتابٌ مستَقلٌّ.
الملائكةُ هُم أكثَرُ خَلقِ الله، أكثَرُ العِبادِ همُ الملائكة. الجِنُّ والإنسُ بالنّسبَةِ للمَلائكةِ كَثْرةً كالنّقطَة في جَنْب البَحر. الملائكةُ كلُّهُم مظَاهرُ رَحمَة أمّا الإنسُ والجِنّ أكثَرُهم لَيسُوا مِن مَظاهِر الرّحمة بل هُم مِن مظَاهِر الغَضب. لأنّ أكثرَ الإنسِ كُفّار وكذلكَ أكثرُ الجِنّ كفّار. قال تعالى: ((ومَا أكثَرُ النّاس ولو حَرَصْتَ بمُؤمنِين)) (سورة يوسف الآية 103). تابع ص309.
قال الفُقهاء: الوَجهُ ما تقَعُ بهِ المواجِهَة.
والله أعلم.