أمّ الفرضي وجامع القرءان
كلما استرجعنا حادثة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة تحضر في الذاكرة هؤلاء القوم الذين فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم لاستقبال النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، فتسابقوا فيما بينهم على البذل والعطاء وحُسن الكرم والضيافة، وتنافسوا في ميادين الفضائل ابتغاء رضا الله، والفوز بسعادة الدارين، مصدقين بما جاء في نبيهم صلى الله عليه وسلم فكان في عزّ ومنعة بينهم مع قومه وأهل بلده.
صحابية اليوم واحدة ممن اجتمعت فيها العديد من صفات البرّ والصلاح والزهد والعبادة وامتازت بكرم وسخاء، ومشت في درب السعداء وهي من هؤلاء القوم الذين نصروا نبيهم صلى الله عليه وسلم. وفضائل هذه الصحابية الجليلة كثيرة، تكرر ذكرها في كتب السيرة والأحاديث النبوية في مواضع كثيرة.. فهي من الأنصار الذين نصروا دين الله وما استكانوا ولا خافوا ولا وهنوا. ونساء الأنصار أخلصن لله الواحد القهار، ففاحت عطور فضائلهن وعبقت في ديار الإسلام.
من هي النــوّار؟
أورد ابن سعد في الطبقات: النوار بنت مالك بن صِرْمَة بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار، وأمها سلمى بنت عامر بن مالك بن عدي، تزوجها ثابت بن الضحاك، فولدت له زيدًا ويزيد ابني ثابت، ثم خلف عليها عمارة بن حزم فولدت له مالكًا. كانت النوّار رضي الله عنها إلى جانب حبها ووعيها لحفظ القرءان شغوفة بحفظ الأحاديث النبوية الشريفة، فقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث، وكذلك روت عن أمهات المؤمنين، وروت عنها أم سعد بن زرارة.
أمّ جامع القرءان
كانت النوّار من النساء الصالحات اللواتي وهبهنّ الله حافظة جيدة، ولسانًا فصيحًا كانت تُقبل على ءايات الوحي فتحفظها عن ظهر قلب ثم تلقنها لولدها ثابت، الذي أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة عند قدوم النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، وقد منّ الله على ولد النوّار هذا، فأصبح بعد حين شيخ القُرّاء والفَرَضيين وأحد كتبة الوحي وجامعًا لسور القرءان ومفتي المدينة رضي الله عنه.
بلال يؤذن عندها
قالت النوار: كان بيتي أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله مسجده، فكان يؤذن بعد على ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره. لقد شرفها الله بهذا الفضل العظيم، فكان بيتها أول منارة للإسلام في المدينة يُذكر فيها الله بالنّداء للصلاة، فهنيئًا للنوار هذا الشرف العظيم الذي حباها الله به.
بعد وفاة زوج النوّار في يوم بُعاث (هو موضع بالقرب من المدينة المنورة جرت به حروب ومناوشات بين أبناء قبيلتيّ الأوس والخزرج) تزوجت هذه السيدة الفاضلة من عمارة بن حزم بن زيد من بني النجار، فهو أيضًا أنصاري رضي الله عنه، كان من السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة.
شهد بدرا وأُحُدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت معه راية بني مالك بن النجار يوم الفتح وشهد قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد وقتل يوم اليمامة شهيدًا.
قصعة النوّار
ورد في الطبقات الكبرى أن زيد بن ثابت قال: فأول
دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب
دخلت بها إناء قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن، فقلت: أرسلَت بهذه القصعة أمي فقال:
، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرمَّ الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعَراق (عظم عليه لحم)، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون ذلك.
بهذا تكون أول
أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل ضيفًا على أبي أيوب الأنصاري قصعة النوّار أم زيد بن ثابت وفضل السّبق في هذا نالته النوّار رضي الله عنها وأرضاها. فكانت مكرّمة هي وولدها عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند الخلفاء الراشدين من بعده.
وفاة النوّار
رحلت النوّار بعد حياة مباركة قضتها كما أمرها خالقها، فأدّت ما عليها لأجل نُصرة دين الله في نفسها وولدها، توفيت النوّار رضي الله عنها وصلى عليها ابنها زيد رضي الله عنه. جزاها الله كل خير عن ولدها وعن أمة الإسلام، كانت حريصة على تربية ابنها وتنشئته على الهدي النبوي، ورأت ثمرة غرسها الصالح في ولدها، فهو زينة من رجالات الأمة المحمدية وماتت وهي ترجو سعادة الآخرة ولقاء نبيها الأعظم صلى الله عليه وسلم.
رضي الله عنها وأرضاها وأسكنها في أعلى عليين بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.