أخصائي نفساني: "الفوبيا هي حالة مرضية ناتجة عن تجربة سلبية علاجها يتطلب الشجاعة"
مختص اجتماعي: "تطور المجتمعات وتعقدها أفرز حالات من "الرهاب" غير مبررة"
Decrease font Enlarge fontيحدث للمرء أحيانا أن تنتابه حالة من الخوف غير المبرر وغير الطبيعي تجاه موقف معين، فيشعر بجملة من الأعراض في آن واحد كتسارع في دقات القلب "خفقان"، احمرار شديد في الوجه جراء تدفق الدم بكثرة، إحساس بارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة، اختناق، ضيق في الصدر، ارتجاف في الأطراف يصحبه تقلب في المعدة غثيان أو إسهال، كثرة التبول في فترات متقاربة بالإضافة إلى التعرق الشديد. وتتكرر هذه الأعراض في كل مرة يصادف فيها ذات الموقف، فيضطر للانعزال والعيش في ضيق متواصل وضجر شديد دون السعي لإيجاد تفسير لما يحدث له فالأغلبية يجهلون أن ما ينتابهم عبارة عن أعراض لحالة نفسية تدعى "الفوبيا".تعد
"الفوبيا" أو "الرهاب" من أكثر الأمراض النفسية انتشارا في الجزائر، فالمصابون بها يميلون إلى التكتم وعدم الإفصاح عنها في ظل غياب إحصائيات وتقارير رسمية حول عددهم، إلا أن الأخصائيين النفسانيين يجمعون على أنهم يتجاوزون ثلث عدد السكان وأنها تمس مختلف الفئات العمرية مسنين، شبابا وحتى أطفالا. ف"الرهاب" ناتج عن تجربة سلبية وعدم تخطي حوادث سابقة في سن الطفولة أو البلوغ لتلازمه هذه الحوادث البسيطة بقية حياته مسببة له ذعرا شديدا يدفعه لتجنبه، وأكد النفسانيون أن معظم المصابين بـ"الفوبيا" يرفضون الاعتراف بها كحالة مرضية خاصة إذا كانوا رجالا معتقدين أنها تمس كرامتهم ورجولتهم. ورغم أن علماء النفس العالميين أحصوا أكثر من 600 نوع من "الفوبيا" إلا أن أكثرها انتشارا الخوف من ركوب الطائرات، الهواتف النقالة، الخوف من الأرقام والظلام، الأماكن المرتفعة... ويمكن اكتشاف الإصابة بها من خلال ردود الأفعال الخارجة عن السيطرة.
الميترو والسلالم الكهربائية الهاجس الأكبر للمسنين كان الحديث إلى المواطنين واستفسارهم عن الأشياء التي تثير مخ
هم غريبا جدا بالنسبة إليهم فالجميع ينكر خاصة الرجال، باستثناء الحاجة "رقية " 65 سنة والتي صادفناها عند مخرج محطة الميترو بساحة أول ماي تتحدث إلى حفيدتها بصوت مرتفع، فقد كانت هذه الأخيرة تحاول إقناعها بركوب الميترو لأنه أسرع ومكيف لكن العجوز رفضت ذلك بشدة مؤكدة أنها لن تركب سوى الحافلة. اقتربنا من العجوز وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث معها محاولين إقناعها بركوب "الميترو" لكنها أصرت على موقفها موضحة أنها ركبته مرة واحدة عند تدشينه في نوفمبر العام الماضي، ومنذ ذلك اليوم قررت عدم ركوبه مرة ثانية فهو يشبه القبر وطريقه مظلم ولا توجد به نوافذ، مضيفة أن أكبر ما يثير مخ
ها هو تعطله وبقاؤها محتجزة تحت الأرض، كما أن السلالم الكهربائية ترعبها فبعد أن جربته مرة واحدة في رحلة وصفتها لنا بالمرعبة أقسمت بأنها لن تركب سوى الحافلة. أما حفيدتها "سيليا" 23 سنة طالبة جامعية بكلية الحقوق، فأكدت لنا أنها تعاني من "الهيموفوبي" أي الخوف من مشاهدة الدم وهو ناتج عن مشاهد المجازر التي ارتكبت في العشرية السوداء وكانت تبث على شاشة التلفزيون، مستطردة أنها في مرات عديدة تفقد وعيها عندما تشاهد منظر الدم.
فتيات يعانين من "فوبيا" المرتفعات وإطار بسوناطراك يخشى ركوب الطائرةتشابهت مخ
الكثير من الفتيات اللواتي تحدثنا إليهن فمعظمهن يخشين "العنوسة"، والحشرات، بالأخص الصراصير والعناكب، الحيوانات حتى الأليفة منها، الأماكن المرتفعة كالجسور والممرات العلوية حتى إن "فتيحة" في الثلاثينات من العمر، صرحت لنا أنها تفضل المخاطرة بقطع الطريق على صعود الممر العلوي، فهي تنتابها حالة من الدوار والغثيان وقد حاولت مرارا صعوده لكنها تتراجع في كل مرة، مشيرة أنها لا تستطيع الإقامة في منزل يقع في الطابق الرابع فتبقى بعيدة عن النوافذ والشرفات فالإطلالة منه ترعبها وتصيبها بنوبات من القلق. فيما أبدت بعض الفتيات خوفهن من بعض الأرقام كالرقم "13 " موضحات أنهن يرهبنه لكثرة استعماله في الأفلام الأجنبية كرمز للحوادث والجرائم وكل ماله علاقة بالجن والشياطين. ما لاحظناه خلال حديثنا للمواطنين أن كل ما له علاقة بالتكنولوجيا بات يثير مخ
هم، مثلما هو حال إطار من العاصمة يعمل بشركة "سوناطراك" في الجنوب الجزائري مصاب بـ"فوبيا" الطائرات، وقد انتابته بعد متابعته لوثائقي "لحظات قبل الكارثة" أين بثت حلقة خاصة عن سقوط الطائرات وهو ما أشعره بعدم الأمن ليمتنع بعدها عن ركوب الطائرات ويكتفي بالحافلات في كل تنقلاته.
المصاعد الكهربائية، الهواتف النقالة و"التليفريك" يتصدرون قائمة "الرهاب"استطاعت "المصاعد الكهربائية" أن تتصدر قائمة العوامل المثيرة للرهاب خاصة بالنسبة إلى الشيوخ والمسنين، فقد أكد لنا عمي "السعيد" 72 سنة يقيم في الطابق 12 بحي عدل في عين النعجة، أنه لم يستعمل المصعد الكهربائي للصعود إلى بيته بتاتا، فقد حدث مرة عندما كان صغيرا لا يتجاوز سنه 11 عاما، كانت الجزائر ترزخ في ظل الاستعمار أن رافق أحد أصدقائه الفرنسيين إلى بيته فركبا المصعد معا لكن الطفل الفرنسي قبل نزوله عبث بالأزرار ليبقى الحاج "السعيد" محتجزا داخله بضع دقائق قبل أن يتمكن من الخروج، ومن يومها لم يركبه مرة أخرى مفضلا صعود السلالم. في حين عبر بعض الشباب عن خوفهم من رنات الهاتف النقال ليلا، "فريد" طالب جامعي من ولاية باتنة، قص لنا حكايته مع هاتفه النقال الذي رن في إحدى المرات ليلا ليخبره المتصل أن شقيقه قد انقلبت به سيارته وهو يرقد في المستشفى، ومن يومها أصبحت رنة الهاتف النقال ترعبه رغم أنه غير الهاتف بعد أن تشاءم منه لكن بدون جدوى. وحكاية "سميرة" ابنة حي المدنية "صالومبي" البالغة من العمر 47 سنة، أغرب من كل الحكايات السابقة فهي تعاني من جملة المخ
كالرهاب الاجتماعي أي أنها تخجل من الحديث للناس، تخاف الأماكن الفسيحة المفتوحة فهي تشعر باللا أمن، لا تركب الباخرة ولا ترتاد البحر فهي تخشى الغرق، لا تستعمل المصعد الهوائي "التيليفيريك" إطلاقا فقد قضت حياتها في زحمة الطرقات مفضلة الابتعاد عنه.
الأخصائيون النفسانيون: "الفوبيا هي حالة مرضية تتطلب الشجاعة لعلاجها" وصفت الأخصائية النفسانية "وردة أوقاسي" في اتصال لـ "الشروق"، "الفوبيا" أو "الرهاب" على أنها حالة من الخوف الشديد، تصاحبه بعض الأعراض كخفقان القلب، الدوار، ألم في البطن... وتشير الأخصائية النفسانية أن هناك أنواع عديدة من "الفوبيا" أكثرها شيوعا الخوف من المرتفعات، الرهاب الاجتماعي وهو عدم القدرة على المواجهة والميل للعزلة، الخوف من الأماكن الضيقة والمغلقة. ويتم تحديد نوعها على حسب أعراض الهلع التي تنتاب المريض، ويعتمد الأطباء النفسانيون في ذلك على الجدول الإكلينيكي الذي يساعدهم في تشخيصها.
وعن أساليب العلاج أكدت الأخصائية "أوقاسي" أن كل حالة نفسية هي حالة في حد ذاتها ويجب التعامل معها باستقلالية فلا يمكن مقارنتها بالآخرين، ويعتمد في العلاج التحليل النفسي أو المعرفي السلوكي وذلك بمد المصاب بقواعد وأفكار يعمل بها لنزع حساسيته بتعريضه للمثير باستمرار بمرافقة المعالج، مستطردة أن النساء يتقبلن المرض النفسي أكثر من الرجال الذين لا يعترفون به ويفضلون التعايش معه وهو ما يجعلهم عرضة للإصابة باضطرابات نفسية متفاوتة الشدة قد تؤدي لعزلهم عن المجتمع.
الأخصائيون الاجتماعيون: تطور المجتمعات وتعقدها أفرز حالات من "الرهاب" غير المبررةيرى الاستاذ "يوسف حنطابلي" مختص في علم الاجتماع بجامعة البليدة، أن "الرهاب" مرتبط بطبيعة شخصية الإنسان وتكوينه حتى أن هناك من يصنفونه على أنه مرض وراثي، موضحا أن الإفراط في فردانية المجتمعات الحديثة أفرز نوعا من الخوف أو "الرهاب" وسبب مجموعة من الأمراض كالخوف من المساحات المفتوحة، المغلقة، الخوف من الآخر وهو ما يدفع البعض للعزلة أو الانعزالية تحت مسميات عديدة كالاستقلال بالذات، ويواصل المختص "حنطابلي" تصريحاته مفيدا أن الخوف بعدما كان حالة نفسية مرتبطة بالأماكن تحول إلى مرض اجتماعي يدخل في تطور المجتمع الذي عزل بعض أفراده ليصبحوا غير مندمجين وغير قابلين لآداء الوظائف الاتصالية، فالمجتمع أصبح أنانيا يقصي الأفراد غير المتحكمين في وسائل الاتصال الحديثة رغم أنها غير طبيعية أو ليست مألوفة.