مشروعية العيد وتحقيقه لحاجات النفوس
لمَّا كانت النفوس مجبولة على حُب الأعياد ومواسم الأفراح بما جعل الله في القلوب من التشوُّق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره، لِمَا يجد فيه الناس من الاجتماع والراحة واللذَّة والسرور ما هو معلوم، حتى بات معظَّمًا لدى عموم الناس على اختلاف مِلَلِهِم لتعلُّق تلك الأغراض به، فقد جاءت شريعة الإسلام بمشروعية عيدي الفطر والأضحى.
وشَرَعَ الله فيهما من التوسعة وإظهار السرور ما تحتاجه النفوس، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأُمَّة المحمدية، خاصةً وأنهما عيدان مشروعان مباركان يحبهما سبحانه، بخلاف أعياد الأمم الأخرى التي لم يشرعها الله، بل هي من جملة مبتدعاتهم.
روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس t قال: قَدِم النبي r المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما: يومَ الفطر والأضحى»([1]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم.
أقول: وهذا يوضح ما في مشاركة بعض المسلمين في أعياد اليهود والنصارى من الخطأ الواضح، فقد جاءت النصوص الصريحة التي فيها ال
الشديد من ذلك.
روى الإمام البيهقي رحمه الله في «سننه»([2]) عن عمر بن الخطاب t أنه قال: «لا تعلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السُّخْطَةَ تنزل عليهم». قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إسناده صحيح.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على تحريم مشاركة الكفار في أعيادهم، وأن ولاة المسلمين من الخلفاء الراشدين ومَنْ بَعْدَهم كانوا يُولُون هذا الأمر حقَّه من المتابعة والرعاية، ويحاذرون من وقوع فرد من المسلمين في شيء من المشاركة للكفار في أعيادهم.
* * * *
من آداب العيد وأحكامه
في العيد آداب يجدر رعايتها، كما أن له أحكامًا ينبعي مراعاتها، ونبيِّن ذلك فيما يأتي:
أولاً: في العيد يشرع لعموم المسلمين في أمصارهم التكبير من ليلة العيد حتى حضور الصلاة.
وقد أخذ أهل العلم هذا الحكم من قوله تعالى: }وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{([3]).
ومِنْ فعله عليه الصلاة والسلام، حيث ثبت عنه r أنه كان يخرج يوم الفطر فيكبِّر حتى يأتي المُصلَّى، وحتى يَقْضِيَ الصلاة، فإذا قَضَى الصلاة قطع التكبير» رواه ابن أبي شيبة في المصنف ([4]).
وهذا من تمام الشكر للمنعم جلَّ وعلا، ولهذا جاءت السُّنة باستحباب ذكر الله عقيب العبادات كما جاء في مشروعية التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وكما جاء من مشروعية ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج، وهكذا بعد قضاء الصيام كذلك([5]).
ومما أُثر من صيغ التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قال الحافظ البغوي رحمه الله: «ومن السُّنة إظهار التكبير ليلتي العيد مقيمين وسفرًا، وفي منازلهم ومساجدهم وأسواقهم وبعد الغدو في الطريق وبالمصلى إلى أن يحضر الإمام».
ثانيًا: استحب العلماء في العيد الاغتسال والتجمُّل له، فيغتسل الشخص ويتنظف ويتطهر، وقد نُقِلَ ذلك عن عدد من السلف من الصحابة ومن بعدهم.
وهكذا التجمُّل ولبس الثياب الحسنة أمر محمود ومشروع في العيد، وقد روى ابن خزيمة في «صحيحه» عن جابر بن عبد الله قال: «كان للنبي r جُبَّة يلبسها في العيدين».
فالرجال يخرجون للصلاة على هذه الصفة من التجمل، وأما النساء فإنهن إذا خرجن للصلاة يخرجن على الصفة التي أَذِنَ بها لَهُنَّ المصطفى r إذا شَهِدْنَ الصلاة حيث قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن لِيَخْرُجْنَ وهُنَّ تَفِلات» رواه أبو داود ([6]).
والمعنى: أن يجتنبن أسباب الفتنة، مثل: الطيب وإبداء الزينة ونحو ذلك, وأما تزين النساء وتجملهن بالمعروف والمشروع, فلا حرج عليهن في إظهاره بين النساء، ولمَن يحل له النظر إليه من زوج أو محارمهن.
ثالثًا: إذا أراد المسلم الخروج للصلاة في عيد الفطر فالمُستحب له أن يأكل تمراتٍ اقتداءً بنبينا محمد r، فقد روى أنس قال: «كان رسول الله r لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترًا» رواه البخاري والترمذي وابن ماجه، وخرجه أيضًا أحمد في «المسند»([7]).
وعن بُريدة قال: «كان النبي r لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَم، ويوم النحر: لا يأكل حتى يرجع فيأكل من نسيكته» رواه الترمذي وابن ماجه ([8]).
رابعًا: ينبغي لأهل الإسلام الحرص الأكيد على حضور صلاة العيد، فإنها متأكدة في حقهم، وقد لازم النبي r صلاة العيد ولم يتركها في عيد من الأعياد منذ شُرِعَت حتى مات عليه الصلاة والسلام.
ومِنْ تأكُّدِها أن الفتيات الصغيرات والنساء المعذورات ومَن لا جلباب لها كلهن أُمِرْنَ بها، حتى أَمَرَ مَن لا جلباب لها أن تُلْبِسَها صاحبتُها، فغيرهن من باب أولى.
ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: «أمَرَنا رسول الله r أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة [وفي لفظ: يعتزلن المُصلَّى] ويشهدن الخير ودعوة المسلمين».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «... ولهذا رجَّحنا أن صلاة العيد واجبةٌ على الأعيان كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد قولي الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد، وقول مَن قال: لا تجب. في غاية البُعد، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شُرع فيها التكبير»([9]).
والمستحب للمسلم سماع الخطبة لِمَا في الاجتماع عليها من الخير والدعاء والذِكر والعلم.
خامسًا: صلاة العيد لا أذان لها ولا إقامة، فقد روى البخاري ومسلم ([10]) عن ابن عباس وجابر قالا: «لم يكن يُؤذَّنُ يوم الفطر ولا يوم الأضحى. وقال جابر بن سُمرة: صليت مع رسول الله r العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذانٍ ولا إقامة» رواه مسلم([11]).
كما أنه ليس لها سُنةٌ قبلية، ولهذا مَن صلاها في المصلَّى – كما هي السُّنة – لا يُصلِّي شيئًا أول ما يحضر بل يجلس، ولكن مَن صلاها في مسجد جماعة فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد كما هي السُّنة، حتى ولو كان وقت نهي، لأنهما من ذوات الأسباب التي لا حرج على المسلم أن يصلي لأجلها وقت النهي.
سادسًا: تُشْرَع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن بما أحلَّ الله، وهذا من هديه r.
ومما يدلُّ على هذا ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله r وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مِزمارةُ الشيطان عند النبي r؟! فأقبل عليه رسول الله r فقال: «دَعْهُمَا»، فلما غفل غمزتُهما فخرجَتَا. رواه البخاري ومسلم([12]).
جاء في رواية: «يا أبا بكر، إن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا».
قال الحافظ البغوي: ويوم بُعاث يومٌ مشهور كان فيه مقتلةٌ عظيمةٌ للأوس على الخزرج، وقد مكثت هذه الحرب مائة وعشرين سنة، حتى جاء الإسلام، وكان شِعْرُ الجاريتين في غنائهما فيه وصف الحرب والشجاعة، وفي هذا معونةٌ لأمر الدِّين، فأما الغناء بذكر الفواحش وذكر الحُرَم والمجاهرة بمنكر القول فهو المحظور من الغناء، وحاشاه أن يجري شيءٌ من ذلك بحضرته r فيُغفل النكير له([13]).
ومما يحسن التنبيه إليه أن إباحة الغناء في يوم العيد على الصفة المذكورة آنفًا إنما هو للبنات الجواري الصغيرات، وهو جائز بالدُّف دون غيره من آلات الطرب، وأن لا يكون ذلك عادةً لهن يتعودن فيها الغناء بعادة المغنيات، وقد نبهت لهذا أمُّ المؤمنين عائشة كما في رواية عند ابن ماجه ([14]) قالت: «وليستا بمغنيتين».
سابعًا: التهنئة بالعيد أمرٌ حسنٌ طيبٌ لفعل صحابة رسول الله r.
فقد ثبت عن جبير بن نفير رحمه الله قال: كان أصحاب رسول الله r إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك ([15]).
ثامنًا: العيد فرصةٌ لتجاوز الانفعالات النفسية، ووصل ما انقطع من أواصر القربى والصداقة.
فكم هو جميل أن يكون في يوم العيد نبذُ التهاجر والحرص على التواصل، وخاصةً صلة الرحم، والإنسان الحصيف هو مَن يعمل بالصلة ويُقابل بالإحسان.
ففي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» رواه مسلم ([16]).
فلكين العيد نقطة تحوُّل في طيبة النفس وسلامة الصدر والتعالي على أوضار النفوس وشُحِّها.
تاسعًا: من أبواب الخير التي يتنبه لها ذوو النفوس الكريمة وأصحاب المروءة والشهامة – وخاصةً في مناسبات الأفرح – تحسس أصحاب الحاجات وسد الفاقات.
أَمَا وقد استعددتَ للعيد.. فأضف إلى استعدادك بمستلزمات العيد استعدادًا آخرَ كريمًا، ألا وهو سعيك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء والمعدِمين.
فتش عن أصحاب الحاجات من الأقارب والجيران وإخوانك المسلمين، وتَلَمَّس حاجاتهم وأدخِل السرور على قلوبهم وأولادهم ونسائهم.
تذكَّر صبيحةَ العيد حين يُقبَّل الأولاد، ويشيع الفرح بين الآباء والأمهات، ويتنامى الأُنس بين الأزواج والزوجات.. وحين يجتمع الشمل للأُسر والعائلات..
تذكَّر إذَّاك يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة الباسمة ابتسامة أبٍ يحنو عليهم ولا أم تعطف عليهم وتهيؤهم لعيدهم.
وإذَّاك تذكَّر أياميً من النساء لا يجدن حنان زوج ترتفع في كنفه عن سؤال الناس.
تذكَّر إخوانًا لك مشردين وخائفين تطولهم أيد الظلم في أصقاع شتى من الدنيا.
تذكَّر كل ذلك وجُد بما تستطيع في تلك المواقف، لتحوز رضا الله وإكرامه لك.
عاشرًا: في العيد يتساهل بعض الناس ببعض الآداب ورعايتها، من مثل ما يكون من تبرج بعض النساء وإبداء زينتهن لمن لا يحل له، وهكذا وقوع الاختلاط بدعوى التواصل العائلي وما يشتمل عليه ذلك من المصافحة بين النساء والرجال الأجانب عنهن، وهذه أمورٌ محرمة معلوم تحريمها من دين الإسلام بالأدلة الصريحة.
والعيد والفرح لا يبرر الوقوع في المحرمات، بل من شكر الله عليه أن تُتَجَنَّبَ ويُحْذَرَ منها.
ومما يظنه بعض الناس مشروعًا وليس كذلك إحياء ليلة العيد وتخصيصها بالقيام، وفي هذا يُروى حديث عن النبي r ولكنه موضوعٌ لا يجوز العمل به ([17]).
وهكذا تخصيص زيارة القبور بيوم العيد ليس من السُّنة في شيء.
كما أن الواجب على الإنسان لدى إظهار فرحه وسروره وممارسة أهله وأولاده لذلك أن يحافظ على مشاعر الآخرين، وأن يراعي آداب الطريق والمعاملة مع الناس.
العيد..لمن؟!
العيد.. وما أدراك ما العيد..؟ فلِمَنْ العيد؟
هل العيد لمَن فوَّت فرص الخير والطاعات؟
وهل العيد لِمَن ضاعت عليه ساعات الليل والنهار فصَرَفَها في أنواع السيئات والموبقات؟
وهل العيد لِمَن جعله وسيلة للنفوذ نحو الشهوات المحرَّمة؟
في العيد يقول الناس:
.. أو مبارك.. لكن مَنْ الذي هو أهلٌ لهذه التهنئة.
في العيد تشيع البهجة وينتشر السرور.. وهذا أمر حميد، ولكن: مَنْ الذي هو حقيق بتكامل الفرحة واستتمام السرور: }قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا{([18]).
إذًا.. العيد لِمَن؟
إنه في الحقيقة عيدٌ لمَن اجتهد في عبادة مولاه، وحرص على التقرٌّب إليه بما يحبُّه ويرضاه في رمضان وبعده، فهذا هو يوم فرح الصائمين بفطرهم بعد أن استجابوا لربهم فصاموا رمضان.
وهو يوم فرح في الأضحى لمن عظَّموا شعائر الله في الأيام السالفة، وخاصة العشر الأوَل المعظمة من ذي الحِجَّة ومن سابق فيها إلى الأعمال الصالحة التي يحبُّ الله تعالى العملَ الصالح فيها أعظم من حبه له في غيرها.
إنه عيدٌ لمن رفع الدرجات وضاعَف الحسنات وصار إلى ربِّه أقرب، والمعروف والبر إلى نفسه أحب.
وفَّق الله الجميع لِمَا فيه الخير، وجعلنا جميعًا من المقبولين، ونسأله سبحانه أن يُصْلِح أحوال المسلمين في كل مكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.