من بلاغة القرآن الكريم أنه يستخدم الألفاظ المجازية حيث يكون المجاز أنسب، ويستخدم الكناية حيث تكون الكناية أشمل للمعنى، ويستخدم الألفاظ الدالة على التكثير حيث يكون المقام مقام كثرة وهكذا ... ويتبين لنا ذلك من خلال اللطائف البلاغية الآتية:
اللطيفة الأولى: في لفظ ﴿َرَاوَدَتْهُ﴾ من قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ [يوسف:23] حيث جاء الفعل(راود) بصيغة المفاعلة التي أصلها وحقيقتها الدلالة على المشاركة، والمراودة هي المطالبة برفق مرة تلو مرة، وهي في الآية هذه لم تحصل إلا من جهة واحدة، فكيف عُبّر عنها بفعل يدل على المشاركة، وهي من طرف واحد فقط؟ وهل اللفظ مستخدم على حقيقته أم على مجازه؟
والجواب – والله أعلم -: أن اللفظ هنا استخدم في مجازه، وهو كون المراودة صادرة من جهة واحدة وهي المرأة، ولكنه عبر بما يدل على المشاركة والمفاعلة ليجمع بين المراودة الحقيقية وسببها، فإنه بالنظر إلى تكرار المرأة المحاولة معه مرة تلو مرة، وممانعته من ذلك مرة إثر أخرى، نُزّلت ممانعته منزلة المشاركة، فكانت المراودة من جهة المرأة على حقيقتها، وهي طلب الموافقة، ومن جهة يوسف عليه السلام على مجازها، وهو الامتناع والإباء عن الاستجابة لذلك، وهذا الامتناع منه صلى الله عليه وسلم مُسبب عن مراودتها له، فلما كانت المراودة سببا للامتناع، والامتناع مسبب عنها دل عليها بلفظ واحد، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه لما كان يوسف عليه السلام جميلا مهيبا معتدلا، يسحر الألباب، ويذهب بالعقول، كان ذلك سببا في مراودتها له.
فلما كانت دوافع المرأة متمثلة فيه عليه السلام جمالا وهيبة واعتدالا وفتوة، جعلت المراودة كأنها صادرة من الطرفين، فهي بالنسبة للمرأة على حقيقتها وهي طلب الوقاع، وبالنسبة ليوسف تعني الدافع لتلك المراودة منها، وذلك جمعاً بين السبب والمسبب. فتأمل.
اللطيفة الثانية: في قوله: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾، حيث جاء التعبير بصيغة (فعَّل) بتضعيف العين، وكان القياس أن يأتي بصيغة (أفعل) التي تدل على القيام بالفعل مرة واحدة.
ولعل السر في اختيار صيغة (فعَّل) أنها تأتي غالبا للتكثير، مما يوحي أن استعمالها هنا فيه دلالة على كثرة الأبواب التي غلقتها امرأة العزيز؛ لتحول دون تفلت يوسف منها، وفيه دلالة أيضا على إحكام التغليق؛ ولذا قال بعض المفسرين إن التضعيف في (فعَّل) يدل على كثرة المحال ذوات الأبواب، وأن الأبواب كانت سبعة، ومعنى ذلك أنها تتبعت أبواب القصر تغلقها بابا بابا حتى بلغت باب الحجرة؛ وذلك لكي تأمن إذا استطاع يوسف أن يفتح بعض الأبواب أن يأتي على جميعها إلا بعد أن تنال حاجتها منه بالمراودة.
ويمكن حمل المعنى على أن التضعيف في الفعل يدل على المبالغة في الغلق، وأنها أغلقت الأبواب إغلاقا محكما بشدة وقوة تدعوان إلى الطمأنينة، كما قال الزمخشري.
ولا مانع من الجمع بين المعنيين وهو دلالة اللفظ على كثرة الأبواب التي غلقتها، وشدة التغليق وإحكامه والمبالغة فيه؛ وذلك لأن هذا الفعل الذي تطلبه منه امرأة العزيز لا يؤتى به إلا في الموضع المستور لا سيما إذا كان حراما، ومع وجود الخوف الشديد.
وهل مراودتها وقعت قبل تغليق الأبواب فامتنع، فقامت بالتغليق والترغيب والترهيب بعد الامتناع، أم أن التغليق وقع أولا لتأمن ثم أتبعته المراودة والترغيب والترهيب؟
وجهان: يحتملهما واو العطف في قوله: ﴿وَغَلَّقَتِ﴾ إذ إنه يفيد مطلق الجمع، فيحتمل أن تكون راودته ابتداء فامتنع، فقامت بتغليق الأبواب وترغيبه وترهيبه، ويحتمل أن تكون قامت بتغليق الأبواب ابتداءً ثم قامت بالمراودة، والذي يرجح هذا المعنى الأخير أن الواو قد تكون للحال، ويكون التقدير: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، والحال أنها قد غلقت الأبواب، وهو أقرب لمعنى الآية.
اللطيفة الثالثة: في قوله: ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ حيث كنى بالموصول وصلته عن المراودة ولم يسمها، وفي التكنية بهذا الموصول من الفوائد واللطائف البلاغية الشيء الكثير، ومنه على سبيل المثال:
- أن فيها دلالة على أسلوب القرآن الرائع والرفيع في الستر على المذنب والمسيء، ولا يذكره إلا بطريق الكناية لا التصريح.
- أن فيها إشارة إلى جرأة هذه المرأة وقوة شكيمتها في سعيها إلى فتى تربى في بيتها، وعاش في كنفها، تطلب منه حراما.
- أن فيها إيماء إلى إظهار عفة يوسف عليه الصلاة والسلام وكمال نزاهته، فإن عدم ميله إليها وعدم استجابته لطلبها مع كونهما في بيت واحد مدة من الزمن، بعيدين عن الخوف والشبهة ومع دوام مشاهدته لحسنها وجمالها، وكونه تحت ملكها، كل ذلك يدل على بلوغه صلى الله عليه وسلم أعلى درجات العفة والنزاهة.
أضف إلى ذلك كونه شابا، والشباب مظنة الشهوة العارمة، وكونه عزبا لا زوجة له يتحصن بها وتطفئ ما لديه من ثورة الشباب وكونه غريبا عن أهله ووطنه، والغربة مدعاة للوقوع في الفاحشة؛ لكونه بعيدا عن أهله وأصحابه، الذين يستحيي منهم أن يعلموا، فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع.
وعلاوة على هذا فإنه في صورة المملوك، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر.
وفوق ذلك كله، أن المراودة له امرأة ذات منصب وجمال، والداعي إليها أقوى ممن ليست كذلك، وأنها هي المطالبة، فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الاستجابة، وزد مع طلبها الرغبة التامة من المرأة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، هذا بالإضافة إلى كونها في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون وتتميما لذلك غلقت الأبواب لتأمن هروبه وهجوم الداخل عليهما بغتة.
وتكميلا بعد التتميم أتته بالترغيب والترهيب ومع ذلك كله عفّ لله، ولم يطعها وقدم حق الله وحق سيدها على تلك المغريات والتهديدات كلها، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف سيكون حاله!!
وهنا لطيفة رائعة في قوله: ﴿عَن نَّفْسِهِ﴾ وهي: أن القرآن الكريم لم يسبق إلى استعمال هذه الكناية الرائعة عن طلب المواقعة والجماع، فهي من مبتكرات القرآن العظيم، وتعدية الفعل (راود) للدلالة على أن معنى المراودة هنا هي: محاولة أن يتجاوز الفتى عفافه ويمكنها من نفسه، فكأنها تراوده بأن يسلم إليها إرادته وتحكمه في نفسه. فاللهم ثبت قلوبنا على طاعتك وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن!!