ن تأزم الحياة ، وتعقد مناحيها وتشعب معالمها ، ينعكس على الّنفس
الإنسانية ، من أنه كلما زادت متطلبات الحياة ، ازداد الإجهاد على النفس ، إذ
غدا الإرهاق ، سمة من سمات الشّخصية المعاصرة . كما أن سبل الانهيار
العصبي ، في بعض جوانبه ما هو إلاّ نتيجة لما تنوء بها الّنفس ، من جراء تفاقم
ضغوط الحياة وتنوع متاعبها .
ولما كان الإنسان العصري اليوم ، هو من دفع بهذه الحضارة لمنحاها
الاستهلاكي التّنافسي ،فقد بات يدفع ثمن رفاهية الاستهلاك مقدماً من صحته
العامة (الجسدية والنّفسية) .
وإن ما ندعوه اليوم بالوعي الحضاري ، ما هو إ ّ لا ذاك الوعي الذي انفصل
، بصورة تدريجية مطردة عن الغرائز الأساسية ، غريزتي (الحياة والموت) وفق
المنظور النّفسي التّحليلي بكل تفصيلاتها . هذه الغرائز وإن اختفت بمظهرها
العام المباشر ، من حيث فقدت تماسها مع وعينا ، فقد اضطرت للتمظهر في
اللاوعي ، وتحققت اشباعاتها بطرائق غير مباشرة ، من مثل الأعراض ال جسدية
في حالات العصاب ، وأعراض شتى من أنواع اضطرابات المزاج المتعددة
المظهر ، وكذا الأعراض النّفسية من مثل : النسيان ، وزلات اللسان ،
والكوابيس والأحلام الغريبة ...
وبحكم تطور المفاهيم الاجتماعية ، وتطور الوعي ال سياسي لدى الناس ، بات
الإنسان يعتقد أنه سيد نفسه ، وباتت الجرأة في المطالبة بالحقوق مستيقظة .
ولكن الوجهة النّفسية العياديةتُظهر أن الإنسان المعاصر ، لا يستطيع عيش
مفاهيمه وقناعاته ، طالما أنه غير قادر على السيطرة على مزاجه ، وانفعالاته
وعواطفه ، أو على معرفة الأساليب الكثيرة التي ينصح بها ليحمي نفسه ، من
رؤية حالة الانشطار ، التي يعاني منها ، في محاور عدة من حياته الخاصة
والعامة ، بدءاً من الحياة النّفسية ال داخلية على مستوى ال ّ ذات ، هذه ال ّ ذات التي
ندين بتحقيقها ، لهذا الاستقلال الفكري الذي نطمح إليه ، و يعيشه إنساننا في
العصر الحديث ، بحيث تشكل أساساً جوهرياً ، تدفع بالأفراد نحو تفعيل قدراتهم
ومهاراتهم الشّخصية ، ولاسيما تلك القدرات الخاصة المتصلة بالحياة ال عاطفية ،
والتي يطلق عليها اليوم ، مهارات الذّكاء العاطفي ، من كون هذه المهارات ترفع
من كفاءات الفرد عندما نستخدمها استخداماً ايجابياً ، ولاشك أن المكانة التي
يشغلها الفرد في أسرته أولاً ، هي الأكثر تأثيراً على سلوكه بعيداً عن تأثيرات
ضغوط الحياة العامة ، إذ يغدو سلوكه اليومي هو المحك في تحقق صحته
العاطفية ،.ولكن يبقى التّأكيد على أثر الأسرة في سلوك أفرادها ، حجراً أساس
من خلال ما تعززه هذه الأسرة ، في سبيل قبول صورة الفرد عن ذاته ، من
كون مفهوم الذّات ينمو ، ويتطور في محوريه الأنا الّنفسي والأنا الاجتماعي ،
من خلال نظرة المحيطين بنا ، ومن خلال وقع التفاعلات ال عاطفية القريبة ،
ونخص بذلك الأبوين في علاقتهما بالطّفل ، من خلال المشاعر المتبادلة التي
تصله بالإحساس المباشر ، والتي بدورها تثّبت موقع هذا ال ّ طفل بين الأبوين ،
من حيث القبول أو الرفض ، أو من خلال التّشجيع ، والّتعزيز المستمر ، أو
حتى بالمنحى ال سلبي من خلال عيش الإحباط في الّتفاعل المريح ، الّناجم عن
كثرة الانتقاد الذي يتلقاه الفرد داخل المحيط الأسري عند البعض . من ذلك لابد
من التأكيد ، على أن التّبادلات العاطفية داخل الأسرة ، وكذلك تبدل هذه
التّفاعلات العاطفية ، تؤثر على نوعية التّوازن النّفسي لأي شخص مستقبلاً ،
حيث أن الحياة الأسرية بكل مستويات علاقات أفرادها تشكل مجالاً هاماً
،للتفاعلات النّفس اجتماعية المختلفة داخل الأسرة ، تترك ظلالها على التفاعل
الاجتماعي لأفرادها في الحياة الاجتماعية العامة ، من خلال الخبرة المعاشة
للفرد وسط أسرته ، المتسمة بالتقبل والود والمحبة ، و عكس ذلك التفاعل ،
يكون له الأثر الأكبر ، في تبلور سماته الفرد الشّخصية ، وكذلك تحديد مسار
نمو قدراته العقلية ، من هنا ولأجل هذه الأهداف المصيرية ،كان لابد من
الإشارة إلى أن الحياة العاطفية للفرد ، وتبعاً للتقارير وال دراسات الإحصائية ،
التي يشتغل عليها الدارسون ، من خطط تنمية الموارد البشرية ، تؤكد على أن
الأسرة المعاصرة ، تتعرض لضغوط كثيرة في جوانب العيش ، وكذلك ال علاقات
الاجتماعية المختلفة .. فهناك مؤشرات على ارتفاع نسب المشكلات الزوجية ،
بدءاً من العزوف عن الزواج ، أو تأخر سن الزواج إلى ارتفاع معدلات الطلاق
في حال الزواج ، مما له انعكاساته المباشرة على التكوين النفسي للأطفال ،
والذي يتضح كذلك من خلال المشاكل النّفسية في ال ّ طفولة المبكرة ، وتعقد آثارها
لتنعكس على مسار نموهم التّعليمي فيما بعد . من هنا تأتي هذه الدراسة على
موضوع الصحة العاطفية ، عّلها تسلط الضوء على جوانب ذات صلة ، أملة أن
تغتني الرؤية في تناولنا لهذا الموضوع الهام ، نظرياً وميدانياً ..
وقد لمست ضرورةً ،لإفراد كتاب يتناول الموضع من مختلف حيثياته ، نظراً
لقلة الكتب والأبحاث في العربية حول ذلك ، وكثرتها في اللغات المختلفة ، والتي
وكذلك أبحاث /henly,martin/ بدأت من عام ( 1995 ) مع أبحاث مارتن وهينلي
عام 2000 م المتصلة بمواضيع ذات صلة حول مهارات ال ّ ذكاء
العاطفي ، وأثرها على التّكيف وزيادة الإنتاج ، وكذلك أيضاً لابد من
عام 2001 م التي أكدت على أن الانفعالات ، لها /solovey/ الإشارة إلى أبحاث
علاقة وثيقة بالصحة النّفسية والجسدية ، وبذلك فإهمال دراسة الحياة ال عاطفية
عند مواجهتنا لأي اضطراب نفسي تتجلى أعراضه ، بتموضعات جسدية بدءاً
من الاكتئاب ، والقلق ، وأشكال العصاب المختلفة كالهستيريا والوساوس ،
وكذلك من مثل اضطرابات جهاز الهضم ، والجهاز الّتناسلي ، ولاسيما كثرة
سرطانات الّثدي عند النّساء في الحياة المعاصرة ، حيث الاضطراب الانفعالي
يترك رواسبه على الجسم البشري ، مما يستدعي الوقوف بأهمية واجبة على
تطور الاهتمام بالصحة العاطفية ....ومن الدراسات ال عالمية في هذا الشأن ،
عام 2001 م ، والبرامج التي تبنتها /wolf,druskat / دراسة وولف ودراسكت
الدراسة ، بهدف تنمية المهارات العاطفية المختلفة ، والتي تدلل على أهمية
امتلاك إنسان اليوم لمهارات الذّكاء العاطفي في تسيير شؤون حياته اليومية ، من
كون امتلاك الأفراد لهذه المهارات ، تمكنهم من امتلاك أدوات النجاح المهني
والاجتماعي والأكاديمي ، وبالتالي تكون الثّقافة حول حياتنا ال عاطفية عوناً على
التّكيف مع ال ّ ذات ، ومن ثم مع الآخرين من حولنا ، وتجعلنا أكثر استمتاعاً
وتمتعاً بحظ أوفر بمقومات الصحة النّفسية .....
را ل ا ل
تزداد عواطف الإنسان ، أو تنضب تبعاً لأمور عدة منها تجربته ال ّ شخصية ،
فمن خلال تنوع خبراته ومحطاتها الاجتماعية منها والعملية ، وبذلك تعمل
العواطف على تعديل ال سلوك وتوجيه الدوافع الفطرية والمكتسبة ، بما يتفق وقيم
المجتمع الذي يعيش به الشخص ، كما أن العواطف تُكسب الإنسان القدرة على
الانتظام والثّبات في سلوكه العام ، مما يسهم في التنبؤ بمواقفه تجاه الأمور
المهمة التي تواجهه في حياته ، نحو عائلته أو أصدقائه وحتى مهنته وانتمائه
الإنساني العام سواء بسواء وبتآذر كبير حتى يتحقق تكيفه الانفعالي للمستوى
المطلوب لآداء ما هو مطلوب منه .
و هذا الكّتاب يأتي كمحاولة للوقوف عند دراسة ال صحة ال عاطفية ، وأهميتها
في تحقق التّكيف النّفسي الاجتماعي في الحياة المعاصرة اليوم ، نظراً لتنوع
المؤثرات والمثيرات في الحياة اليومية ، والصراعات المعاشة في الّتقليل من
أثرها بغية تحقيق التّوافق والانسجام مع محيطنا القريب ، وسعينا الأكيد للّتوافق
مع المحيط البعيد الذي لا يمكننا التّعثر في تجاهل أثاره إذا أقصيناه بعيداً ..
يضم هذا الكتاب ثمانية فصول تبحث المواضيع الّتالية :
الفصل الأول : يبحث أهمية دراسة الصحة العاطفية عنوان ال ّ كتاب كمفهوم
أساس للتّكيف في الحياة المعاصرة ، ويوضح علاقة ال ّ ذكاء ال عاطفي بمدى تحقق
الصحة العاطفية ، كما يعرض لأهمية النّمو العاطفي في ال ّ طفولة المبكرة ،
ومراحل وكيفية نمو الأنا والهوية .