يقول هنري بوانكاريه : « إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن ... » أطروحة فاسدة وتقرر لديك الدفاع عنها فما عساك أن تفعل ؟
طرح المشكلة :
إن الفرضية هي تلك الفكرة المسبقة التي توحي بها الملاحظة للعالم ، فتكون بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي ، أي الفكرة المؤقتة التي يسترشد بها المجرب في إقامته للتجربة . ولقد كان شائعا بين الفلاسفة والعلماء من أصحاب النزعة التجريبية أنه لم يبق للفرضية دور في البحث التجريبي إلا أنه ثمة موقف آخر يناقض ذلك متمثلا في موقف النزعة العقلية التي تؤكد على فعالية الفرضية و أنه لا يمكن الاستغناء عنها لهذا كان لزاما علينا أن نتساءل كيف يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة؟ هل يمكن تأكيدها بأدلة قوية ؟ و بالتالي تبني موقف أنصارها ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض منطق الأطروحة :
يذهب أنصار الاتجاه العقلي إلى أن الفرضية كفكرة تسبق التجربة أمر ضروري في البحث التجريبي ومن أهم المناصرين للفرضية كخطوة تمهيدية في المنهج التجريبي الفيلسوف الفرنسي كلود برنار ( 1813 – 1878 ) و هو يصرح بقوله عنها « ينبغي بالضرورة أن نقوم بالتجريب مع الفكرة المتكونة من قبل» ويقول في موضع أخر « الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع و إليها ترجع كل مبادرة » وبالتالي نجد كلود برنار يعتبر الفرض العلمي خطوة من الخطوات الهامة في المنهج التجريبي إذ يصرح « إن الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتحكمها والتجربة تحكم بدورها على الفكرة » أما المسلمة المعتمدة في هذه الأطروحة هو أن " الإنسان يميل بطبعه إلى التفسير و التساؤل كلما شاهد ظاهرة غير عادية " وهو في هذا الصدد يقدم أحسن مثال يؤكد فيه عن قيمة الفرضية و ذلك في حديثه عن العالم التجريبي " فرانسوا هوبير" ، وهو يقول أن هذا العالم العظيم على الرغم من أنه كان أعمى فإنه ترك لنا تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجربها ،، ولم تكن عند خادمه هذا أي فكرة علمية ، فكان هوبير العقل الموجه الذي يقيم التجربة لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره وكان الخادم يمثل الحواس السلبية التي تطبع العقل لتحقيق التجربة المقامة من أجل فكرة مسبقة . و بهذا المثال نكون قد أعطينا أكبر دليل على وجوب الفرضية وهي حجة منطقية تبين لنا أنه لا يمكن أن نتصور في تفسير الظواهر عدم وجود أفكار مسبقة و التي سنتأكد على صحتها أو خطئها بعد القيام بالتجربة .
نقد خصوم الأطروحة :
هذه الأطروحة لها خصوم وهم أنصار الفلسفة التجريبية و الذين يقرون بأن الحقيقة موجودة في الطبيعة و الوصول إليها لا يأتي إلا عن طريق الحواس أي أن الذهن غير قادر على أن يقودنا إلى حقيقة علمية . والفروض جزء من التخمينات العقلية لهذا نجد هذا الاتجاه يحاربها بكل شدة ؛ حيث نجد على رأس هؤلاء الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل ( 1806 - 1873 ) الذي يقول فيها « إن الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين ، ولهذا يجب علينا أن نتجاوز هذا العائق وننتقل مباشرة من الملاحظة إلى التجربة »وقد وضع من أجل ذلك قواعد سماها بقواعد الاستقراء متمثلة في : ( قاعدة الاتفاق أو التلازم في الحضور _ قاعدة الاختلاف أو التلازم في الغياب – قاعدة البواقي – قاعدة التلازم في التغير أو التغير النسبي ) وهذه القواعد حسب " مل " تغني البحث العلمي عن الفروض العلمية . ومنه فالفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق لاعتمادها على الخيال والتخمين المعرض للشك في النتائج – لأنها تشكل الخطوة الأولى لتأسيس القانون العلمي بعد أن تحقق بالتجربة – هذا الذي دفع من قبل العالم نيوتن يصرح ب : « أنا لا أصطنع الفروض » كما نجد "ما جندي" يرد على تلميذه كلود برنار : «اترك عباءتك ، و خيالك عند باب المخبر » . لكن هذا الموقف ( موقف الخصوم ) تعرض لعدة انتقادات أهمها :
- أما عن التعرض للإطار العقلي للفرض العلمي ؛ فالنزعة التجريبية قبلت المنهج الاستقرائي وقواعده لكنها تناست أن هذه المصادر هي نفسها من صنع العقل مثلها مثل الفرض أليس من التناقض أن نرفض هذا ونقبل بذاك .
- كما أننا لو استغنينا عن مشروع الافتراض للحقيقة العلمية علينا أن نتخلى أيضا عن خطوة القانون العلمي – هو مرحلة تأتي بعد التجربة للتحقق من الفرضية العلمية - المرحلة الضرورية لتحرير القواعد العلمية فكلاهما – الفرض ، القانون العلمي – مصدران عقليان ضروريان في البحث العلمي عدمهما في المنهج التجريبي بتر لكل الحقيقة العلمية .
- كما أن عقل العالم أثناء البحث ينبغي أن يكون فعالا ، وهو ما تغفله قواعد "جون ستيوارت مل "التي تهمل العقل و نشاطه في البحث رغم أنه الأداة الحقيقية لكشف العلاقات بين الظواهر عن طريق وضع الفروض ، فدور الفرض يكمن في تخيل ما لا يظهر بشكل محسوس .
- كما أننا يجب أن نرد على "جون ستيوارت مل" بقولنا أنه إذا أردنا أن ننطلق من الملاحظة إلى التجربة بالقفز وتجاهل الفرضية فنحن مضطرين لتحليل الملاحظة المجهزة تحليلا عقليا و خاصة إذا كان هذا التحليل متعلق بعالم يتصف بالروح العلمية . يستطيع بها أن يتجاوز تخميناته الخاطئة ويصل إلى تأسيس أصيل لنظريته العلمية مستعملا الفرض العلمي لا متجاوزا له .
- أما" نيوتن " ( 1642 – 1727 )لم يقم برفض كل أنواع الفرضيات بل قام برفض نوع واحد وهو المتعلق بالافتراضات ذات الطرح الميتافيزيقي ، أما الواقعية منها سواء كانت علية ، وصفية ، أو صورية فهي في رأيه ضرورية للوصول إلى الحقيقة . فهو نفسه استخدم الفرض العلمي في أبحاثة التي أوصلته إلى صياغة نظريته حول الجاذبية .
الدفاع عن الأطروحة بحجج شخصية شكلا ومضمونا :
إن هذه الانتقادات هي التي تدفعنا إلى الدفاع مرة أخرى عن الأطروحة القائلة : « إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن ... » ، ولكن بحجج وأدلة جديدة تنسجم مع ما ذهب إليه كلود برنار أهمها :
- يؤكد الفيلسوف الرياضي " بوانكاريه " ( 1854 – 1912 ) وهو يعتبر خير مدافع عن دور الفرضية لأن غيابها حسبه يجعل كل تجربة عقيمة ، «ذلك لأن الملاحظة الخالصة و التجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم » مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها العالم في بحثه تكون من بناء العقل وليس بتأثير من الأشياء الملاحظة وهذا ما جعل بوانكاريه يقول أيضا « إن كومة الحجارة ليست بيتا فكذلك تجميع الحوادث ليس علما »
- إن الكشف العلمي يرجع إلى تأثير العقل أكثر مما يرجع إلى تأثير الأشياء يقول " ويوال " : « إن الحوادث تتقدم إلى الفكر بدون رابطة إلى أن يحي الفكر المبدع .» والفرض علمي تأويل من التأويلات العقلية .
- إن العقل لا يستقبل كل ما يقع في الطبيعة استقبالا سلبيا على نحو ما تصنع الآلة ، فهو يعمل على إنطاقها مكتشفا العلاقات الخفية ؛ بل نجد التفكير العلمي في عصرنا المعاصر لم يعد يهمه اكتشاف العلل أو الأسباب بقدر ما هو اكتشاف العلاقات الثابتة بين الظواهر ؛ والفرض العلمي تمهيد ملائم لهذه الاكتشافات ، ومنه فليس الحادث الأخرس هو الذي يهب الفرض كما تهب النار الفرض كما تهب النار ؛ لأن الفرض من قبيل الخيال ومن قبيل واقع غير الواقع المحسوس ، ألم يلاحظ أحد الفلكيين مرة ، الكوكب "نبتون" قبل " لوفيري " ؟ ولكنه ، لم يصل إلى ما وصل إليه " لوفيري " ، لأن ملاحظته العابرة لم تسبق فكرة أو فرض .
- لقد أحدثت فلسفة العلوم ( الابستملوجيا ) تحسينات على الفرض – خاصة بعد جملة الاعتراضات التي تلقاها من النزعة التجريبية - ومنها : أنها وضعت لها ثلاثة شروط ( الشرط الأول يتمثل : أن يكون الفرض منبثقا من الملاحظة ، الشرط الثاني يتمثل : ألا يناقض الفرض ظواهر مؤكدة تثبت صحتها ، أما الشرط الأخير يتمثل : أن يكون الفرض كافلا بتفسير جميع الحوادث المشاهدة ) ، كما أنه حسب "عبد الرحمان بدوي " (1917 - 2002) لا نستطيع الاعتماد على العوامل الخارجية لتنشئة الفرضية لأنها برأيه « ... مجرد فرص ومناسبات لوضع الفرض ... » بل حسبه أيضا يعتبر العوامل الخارجية مشتركة بين جميع الناس ولو كان الفرض مرهونا بها لصار جميع الناس علماء وهذا أمر لا يثبته الواقع فالتفاحة التي شاهدها نيوتن شاهدها قبله الكثير لكن لا أحد منهم توصل إلى قانون الجاذبية . ولهذا نجد عبد الرحمان بدوي يركز على العوامل الباطنية ؛ «... أي على الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد ...»
- ومع ذلك ، يبقى الفرض أكثر المساعي فتنة وفعالية ، بل المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبها سواء كانت صحته مثبتة أو غير مثبتة ، لأن الفرض الذي لا تثبت صحته يساعد بعد فشله على توجيه الذهن وجهة أخرى وبذلك يساهم في إنشاء الفرض من جديد ؛ فالفكرة إذن منبع رائع للإبداع مولد للتفكير في مسائل جديدة لا يمكن للملاحظة الحسية أن تنتبه لها بدون الفرض العلمي .
حل المشكلة :
نستنتج في الأخير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال التفكير عامة ، لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته ، ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة ، تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخالص وقديما تنبه العالم المسلم الحسن بن الهيثم ( 965 - 1039 ) - قبل كلود برنار _ في مطلع القرن الحادي عشر بقوله عن ضرورة الفرضية « إني لا أصل إلى الحق من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية و صورتها الأمور العقلية » ومعنى هذا أنه لكي ينتقل من المحسوس إلى المعقول ، لابد أن ينطلق من ظواهر تقوم عليها الفروض ، ثم من هذه القوانين التي هي صورة الظواهر الحسية .وهذا ما يأخذنا في نهاية المطاف التأكيد على مشروعية الدفاع وبالتالي صحة أطروحتنا .
أرجو أن تنال المقالة إعاجبكم لاتنسونا دائما بالدعاء فنحن في أمس الحاجة له
لمذهب العقلي :
عبر تاريخ الأفكار حاول الفلاسفة العقلانيون أن يبنوا مذهبا عقليا وهم يفكرون بالعقل ويفكرون في هذا العقل وقد عمل بعض الفلاسفة على بناء فكرهم على أساس العقل نظرا لأن التجريبيون الذين اعتمدوا على الحواس لأنه كما قال "روني ديكارت" حواسنا كثيرا ما تخدعنا وأكبر دليل هو امتلاك الناس جميعهم للعقل ويرى العقلانيون أن العقل هو وسيلة موصلة إلى المعرفة الحقة وقد اعتمد العقلانيون على مبادئ العقل في بناء فكرهم ومنها (مبدأ الهوية – مبدأ الثالث المرفوع – مبدأ عدم التناقض ) إضافة إلى البديهيات وهي قضايا قائمة بذاتها لا تحتاج لإثبات وجودها إلى البرهان .
وانطلق العقلانيون من معارف قبلية إذ يعتبرون أن العقل هو مصدر المعرفة وأن الحقيقة تنبع من العقل هذا ما يوضحه " روني ديكارت " الذي يرى أن العقل هو مصدر المعرفة وأن الحقيقة تنبع منه .
انطلق ديكارت وكثير من الفلاسفة العقلانيين من نقذهم للحواس أي المعرفة الحاصلة من جراء الحس أذانها كثيرا ما تخدعنا مثال على ذلك البصر مثلا : رؤيتنا للقمر على أنه دينار صغير ولكنه في الحقيقة أكبر من ذلك .
ويقول العقلانيون أنه لا يمكن للإنسان أن يغلق عينيه ويتحصل على المعرفة .
والفكر عند ديكارت هو قوام الوجود الإنساني فالكائن البشر لم يخرج عن كونه كائنا عاقلا مفكرا والفكر هو كل حالة من حالات الشعور والعاطفة والإرادة فهو فعل العقل .
فأول شيء يجب على الإنسان معرفته هو أنه يمتلك ملكة التفكير والنور الطبيعي لإدراك وتحصيل المعرفة وقد أعطى ديكارت للمعرفة الشك فهو أول المراحل الموصلة إلى اليقين وشعاره ضرورة البدء بالشك في الأشياء الحسية وأمور العالم المادي والواقع أن الحواس كثيرا ما تخدعنا وأن الموجودات الحسية واقعة في الأعيان خارج الأذهان إننا حين نشك في حقيقة الأشياء المعروضة على حواسنا فإننا نزيح كل معرفة غير قائمة على حدس من حدوس العقل على اعتبار أن الحدس هو الرؤية العقلية المباشرة التي يدرك بها الذهن بعض الحقائق لتجعل منه النفس يقينا لا يناقضه شيء أو هو نظرة من نظرات العقل تصل درجة وضوحه إلى حد يزول معه كل شك وهو عقلي لا يتعلق بالحواس ولا الخيال بل خاصية الذهن الخالص فليس هناك تطابق بين الفكر والواقع وينبغي البحث عن اليقين الذي يكون فيه الفكر مطابقا للواقع بالضرورة وكما يقول ديكارت " أنا أفكر إذن أنا موجود " بمعنى أنا موجود حين أفكر ومن حيث أني أفكر وكوني أفكر,أن لي وجودا نفسيا ووجدانا أو وعيا وعليه فإن أول خطوة من خطوات معرفتنا هي اكتشاف وجود أنفسنا أو ذواتنا وأنه لا يجب الثقة في حكم حواسنا لأنها لا تخدعنا فحسب بل تعرض علينا عالما خارجيا لا يمكن أن تكون حقيقته مطابقة لمظهره وإن أقرب العوالم إلى الحقيقة هو العالم الذي تصفه لنا الفيزيقية
الرياضية لا على العالم التقريبي الذي تمدنا به إدراكاتنا الحسية وقد أصدر ديكارت كتاب "مقال في المنهج " وضع فيه عدة قواعد :
01) البداهة : لا أتلقى شيء على انه بديهي بل يجب أن نبرهن عليه بعد الشك فيه .
02) التحليل : تفكيك الأجزاء إلى عناصر صغيرة ليسهل فهمه وإدراكه
03) التركيب : تقديم مقررات نهائية واستخلاص نتائج الانتقال من النظري إلى العملي .
04) الإحصاء : ( الاستقصاء التام ) وهو المرحلة الأخيرة في البحث وتتمثل في مراجعة خطوات البحث .
فالمعارف السابقة+ الشـــــــــــك = معارف يقينيــــــــــــــــــــــــــــــــــة