يحتفل المسلمون بذكرى الإسراء والمعراج،
هذه المعجزة الخالدة لنبى الإسلام صلى الله عليه وسلم،
التى ربطت بين السماء والأرض،
وأكدت وحدة الرسالات السماوية التى جاء بها أنبياء الله ورسله،
كما أثبتت عالمية الإسلام وختمه لرسالات السماء.
قال تعالى:
{سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا}..
فقد
أراد الله أن يريه من هذه الآيات الكبرى حتى يقوى قلبه ويصلب عوده، وتشتد
إرادته فى مواجهة الكفر بأنواعه وضلالاته كما فعل الله تعالى مع موسى عليه
السلام حينما أراد أن يبعثه إلى فرعون أراه من آياته ليقوى قلبه فلا يخاف
فرعون ولا يهتز أمامه.
ومن أهم هذه المشاهد كما
يقول: د. الحسينى يوسف عبدالعال الأستاذ بجامعة الأزهر: المشهد الذى تظهر
فيه امرأة جميلة متبرجة بكل أنواع الزينة، حاسرة عن ذراعيها تنادى: يا محمد
انظرنى أسألك. فلم يلتفت إليها صلى الله عليه وسلم فقال جبريل للرسول: ما
سمعت فى الطريق؟
فقال عليه السلام: بينما أنا
أسير إذا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول: يا
محمد انظرنى أسألك! فلم أجبها، ولم أقم عليها.
قال جبريل: تلك الدنيا، أما أنك لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الشئ الذى ناداك من جانب الطريق فهو إبليس.
ثم
قدم جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم إناءين فى أحدهما
خمر، وفى الآخر لبن، وقال له: اختر ما شئت، فاختار رسول الله إناء اللبن
فشربه، وأعرض عن الخمر، ولم تكن الخمر قد حرمت فى الإسلام حينئذ.
فلما
اختار الرسول اللبن قال له جبريل: هديت إلى الفطرة، ولو شربت الخمر لغويت
وغويت أمتك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر.الله أكبر واللبن
الذى اختاره صلى الله عليه وسلم شراب أصيل لم يتغير لونه ولم يتحول إلى
شراب خبيث يذهب العقول كالخمر، فهو نافع للصحة والبدن فلما شربه صلى الله
عليه وسلم آثر الصالح على الفاسد وهذه سنة الله التى فطر الناس عليها.
نزل
رسول صلى الله عليه وسلم عند بيت المقدس، وصلى بالأنبياء إماما، وربط
البراق بحلقة باب المسجد.. لتبدأ بعد ذلك مشاهد المعراج إلى السماوات
العلا.
ويروى د. زكى عثمان الأستاذ بجامعة الأزهر
مشهدا آخر من مشاهد المعراج التى تعد درسا من دروس الدعوة العظيمة وقدوة
حميدة للناس أجمعين. حيث نظر الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى موائد كثيرة،
عليها لحم ناضج جيد ولا يقربها أحد وموائد أخرى عليها لحم نتن كريه الرائحة
وحول هذا اللحم النتنه أناس يتنافسون على الأكل منها ويتركون اللحم الناضج
الجيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء يا جبريل؟
قال
جبريل: هذا حال أناس من أمتك يتركون الحلال الطيب فلا يطعمونه، ويأتون
الحرام الخبيث فيأكلونه!!. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجد
أناسا شفاههم كمشافر الإبل. فيأتى من يفتح أفواههم، فيلقى فيها قطعا من
اللحم الخبيث، فيضجون منها إلى الله لأنها تصير نارا فى أمعائهم فلا يجيرهم
أحد حتى تخرج من أسفلهم فقال عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل ؟
قال جبريل: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى بالباطل، إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا.
إضاعة الصلوات
ويكمل
الدكتور منصور الحفناوى رئيس قسم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة
الزقازيق سرد المشاهد بقوله: رأى الرسول الله عليه وسلم طريقا ممتدا إلى
النار يمر فيه آل فرعون. فيعرضون على النار غدوا وعشيا.
وأثناء
مرورهم يجدون على الطريق أقواما بطونهم منتفخة مثل البيوت، كلما نهض أحدهم
سقط يقول: اللهم أخر يوم القيامة، اللهم لا تقم الساعة فيطؤهم آل فرعون
بأقدامهم فقال عليه السلام: من هؤلاء يا جبريل؟
قال
جبريل: هؤلاء هم الذين يتعاملون بالربا من أمتك.. لا يقومون إلا كما يقوم
الذى يتخبطه الشيطان من المس ثم مضى الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى أقواما
يقطع اللحم من جنوبهم ثم يقال لكل منهم: كل من هذا اللحم كما كنت تأكل لحم
أخيك ميتا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟
قال
جبريل: هؤلاء هم الذين يغتابون الناس من أمتك، كان كل منهم يأكل لحم أخيه
ميتا. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أقواما تضرب رؤوسهم بالصخر
كلما ضربت تحطمت وكلما تحطمت عادت كما كانت فترضخ من جديد بالصخر فتتحطم..
وهكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟
قال جبريل عليه السلام: هؤلاء من أمتك هم الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
يعقب
ذلك مشهد يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على رجل قد جمع حزمة
عظيمة لا يستطيع حملها هو يزيد عليها، وذلك دليل على كثرة الذنوب التى
ارتكبها والمعاصى التى اقترفها، ومع ذلك فهو يزيد منها ويثقل على نفسه
بالذنوب فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا يا جبريل؟
قال
جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عليه أمانات الناس، لا يقدر على أدائها وهو
يزيد عليها أمانات أخرى، وقد دعا الإسلام إلى رد الأمانات.
كما
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوام تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض
من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شئ وهذا جزاء من
يتكلم بالشر، ويخوض فيه بين الناس فلما رأى رسول الله ذلك قال لجبريل: ما
هذا يا جبريل؟
قال جبريل: هؤلاء خطباء الفتنة.
وعلى العكس فهذا المشهد يثير فى نفوسنا الراحة ويبعث فيها الاطمئنان
والسكينة، فقد مر الرسول على أقوام يحصدون فى يوم، كلما حصدوا عاد كما كان.
وكثرة الحصاد والمحصول على هذا الوجه رمز لجزاء الله سبحانه الذى لا
يتناهى، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك سأل جبريل: ما هذا
يا جبريل؟
قال جبريل: هؤلاء هم المجاهدون فى
سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف. ولذلك يشبه الله العمل الصالح
فى الآية: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن
يشاء}.
وهذا مشهد من مشاهد الجنة التى وعد بها
المتقون والصالحون، فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على واد فسيح،
فهبت عليه منه ريح باردة طيبة، ورائحة مسك أزكى من مسك الأرض، وسمع من جهته
صوتا، فقال عليه السلام: يا جبريل.. ما هذه الريح الطيبة الباردة؟ وما هذا
المسك؟. وما هذا الصوت؟
قال جبريل: هذا صوت الجنة
تقول: رب ائتنى بما وعدتنى، فقد كثرت غرفى، واستبرقى، وحريرى، وسندسى،
ولؤلؤى، ومرجانى وفضتى، وذهبى، وأكوابى وصحافى، وأباريقى، وكؤسى، وعسلى
ومائى، وخمرى، ولبنى، فائتنى بما وعدتنى.
فقال عز وجل: (لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بى وبرسلى، وعمل صالحا، ولم يشرك بى شيئا).
عذاب النار
ويأخذنا
د. جلال البشار وكيل كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر إلى مشهد من
مشاهد جهنم أعاذنا الله من شرها، ومن لهيبها، وجنبنا غيظها وفورانها، فقد
جاء صلى الله عليه وسلم على واد فسيح، فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا خبيثة
فقال: ما هذه الريح يا جبريل؟ وما هذا الصوت؟
قال
جبريل هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتنى بما وعدتنى فقد كثرت سلاسلى،
وأغلالى، وسعيرى، وحميمى، وضريعى، وغساقى، وعذابى، وقد بعد قرارى، واشتد
حرى، فائتنى بما وعدتنى.
فقال لها رب العزة: (لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت النار قد رضيت).
أعاذنا
الله من شرها، وجنبنا المعاصى وحبب إلينا الطاعات حتى نكون من أهل الجنة
بعيدا عن النار وعذابها. وعندما صعد النبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء
الخامسة فاستفتح ففتح له، ولقى من التحية ما اعتاد عليه فى السماوات
السابقة، فدخل صلى الله عليه وسلم فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم
من أمر الله ما شاء الله، فقال: من هذا يا جبريل؟
فقال
جبريل عليه السلام: هذا المحبب إلى قومه هارون بن عمران، وهؤلاء بن
وإسرائيل، فلما رأى هارون محمدا عليه الصلاة والسلام قال: مرحبا بالنبى
الصالح والأخ الصالح، فحياه الرسول عليه السلام.
ثم
صعد به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح، ففتحت السماء له، ورحب به عليه
السلام ولما دخل عليه السلام فإذا برجل جالس فمر به فبكى الرجل، فقال
الرسول عليه السلام: يا جبريل من هذا؟
قال جبريل:
هذا موسى بن عمران. فقال عليه السلام: فما له يبكى؟ قال جبريل: أنه يقول:
تزعم بنو إسرائيل أنى أكرم بنى آدم على الله عز وجل، وهذا رجل من بنى آدم
قد فاقنى فى رتبته، فلو أنه بنفسه لما اهتممت، ولكنه مع كل بنى أمته.
ثم
صعد به جبريل عليه السلام إلى السماء السابعة فاستفتح ففتحت له، ودخل عليه
السلام فإذا به يرى البيت المعمور، وهو بيت فى السماء السابعة مثل الكعبة
الشريفة فى أرضنا هذه يدخله كل يوم للصلاة فيه سبعون ألف ملك لا يعودون إلى
يوم القيامة، ورأى عليه السلام رجلا أحسن ما يكون الرجال قد أسند إلى
البيت المعمور فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا الرجل يا جبريل؟
قال
جبريل: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام، خليل الرحمن. فسلم رسول الله صلى
الله عليه وسلم فرد عليه الخليل السلام. ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم
حول إبراهيم الخليل قوما جلوسا بيض الوجوه أمثال القراطيس.. وقوما فى
ألوانهم شئ، فدخلوا نهرا اغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شئ.
ثم
دخلوا نهرا آخر، فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فصارت مثل ألوان
أصحابهم، فجاؤا فجلسوا إلى أصحابهم. فقال عليه الصلاة والسلام يا جبريل من
هؤلاء البيض الوجوه؟ ومن هؤلاء الذين فى ألوانهم شئ؟ وما هذه الأنهار التى
دخلوا فيها فجاءوا وقد صفت ألوانهم؟
قال جبريل:
أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، أى أنهم أخلصوا دينهم
لله، فليس فى قلوبهم شئ من شك أو ميل إلى الإثم والبغى، فكان إيمانهم نقيا
صافيا. وأما هؤلاء الذين فى ألوانهم شئ، فقوم خلطوا عملا صالحا، وآخر
سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار فهى: نهر الرحمة، ونهر النعمة،
والثالث: شراب طهور.
ومع
اشتداد المحن وتكاثر الأحزان، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمسّ
الحاجة إلى ما يعيد له طمأنينته، ويقوّي من عزيمته، فكانت رحلة الإسراء
والمعراج، حيث أُسري به ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس، ثم عُرج به
إلى السماوات العُلى، ثم عاد في نفس اليوم.
وتبدأ القصّة عندما نزل
جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصحبة ملكين آخَريْن، فأخذوه
وشقّوا صدره، ثم انتزعوا قلبه وغسلوه بماء زمزم، ثم قاموا بملء قلبه
إيماناً وحكمة، وأعادوه إلى موضعه.
ثم جاء جبريل عليه السلام بالبراق،
وهي دابّة عجيبة تضع حافرها عند منتهى بصرها، فركبه النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وانطلقا معاً، إلى بيت المقدس.
وفي هذه المدينة المباركة كان
للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ موعدٌ للقاء بإخوانه من الأنبياء عليهم
السلام، فقد اصطحبه جبريل عليه السلام إلى المسجد الأقصى، وعند الباب ربط
جبريل البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء جميعاً، ثم دخلا إلى المسجد،
فصلّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأنبياء إماماً، وكانت صلاته تلك
دليلاً على مدى الارتباط بين دعوة الأنبياء جميعاً من جهة، وأفضليّته عليهم
من جهة أخرى.
ثم بدأ الجزء الثاني من الرّحلة، وهو الصعود في الفضاء
وتجاوز السماوات السبع، وكان جبريل عليه السلام يطلب الإذن بالدخول عند
الوصول إلى كلّ سماءٍ، فيؤذن له وسط ترحيب شديد من الملائكة بقدوم سيد
الخلق وإمام الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وفي السماء الدنيا، التقى
ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـ(آدم عليه السلام)، فتبادلا السلام والتحيّة، ثم
دعا آدم له بخيرٍ، وقد رآه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً وعن يمينه
وشماله أرواح ذريّته، فإذا التفت عن يمينه ضحك، وإذا التفت عن شماله بكى،
فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبريل عن الذي رآه، فذكر له أنّ أولئك
الذين كانوا عن يمينه هم أهل الجنّة من ذرّيّته فيسعد برؤيتهم، والذين عن
شماله هم أهل النار فيحزن لرؤيتهم.
ثم صعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
السماء الثانية ليلتقي بـ (عيسى ويحيى عليهما السلام)، فاستقبلاهُ أحسن
استقبالٍ وقالا: (مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح).
وفي السماء
الثالثة، رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخاه (يوسف عليه السلام) وسلّم
عليه، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بقوله: (..وإذا هو قد أعطي شطر الحسن)ـ
رواه مسلم ـ.
ثم التقى بأخيه (إدريس عليه السلام) في السماء الرابعة، وبعده (هارون عليه السلام) في السماء الخامسة.
ثم
صعد جبريل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماء السادسة لرؤية أخيه
(موسى عليه السلام)، وبعد السلام عليه بكى موسى فقيل له: (ما يبكيك ؟،
فقال: أبكي؛ لأن غلاماً بُعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من
أمتي).
ثمّ كان اللقاء بخليل الرحمن (إبراهيم عليه السلام) في السماء
السابعة، حيث رآه مُسنِداً ظهره إلى البيت المعمور ـ كعبة أهل السماء ـ
الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه أبداً، وهناك
استقبل إبراهيم عليه السلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعا له، ثم قال:
(يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة
الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا
الله، والله أكبر) ـ رواه الترمذي ـ.
وبعد هذه السلسلة من اللقاءات
المباركة، صعد جبريل عليه السلام بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سدرة
المنتهى، وهي شجرةٌ عظيمة القدر كبيرة الحجم، ثمارها تُشبه الجرار الكبيرة،
وأوراقها مثل آذان الفيلة، ومن تحتها تجري الأنهار، وهناك رأى النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ جبريل عليه السلام على صورته الملائكيّة وله ستمائة
جناح، يتساقط منها الدرّ والياقوت.
ثم حانت أسعد اللحظات إلى قلب النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ، حينما تشرّف بلقاء الله والوقوف بين يديه ومناجاته،
لتتصاغر أمام عينيه كل الأهوال التي عايشها، وكل المصاعب التي مرّت به،
وهناك أوحى الله إلى عبده ما أوحى، وكان مما أعطاه خواتيم سورة البقرة،
وغفران كبائر الذنوب لأهل التوحيد الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، ثم فَرَض
عليه وعلى أمّته خمسين صلاة في اليوم والليلة.
وعندما انتهى ـ صلى الله
عليه وسلم ـ من اللقاء الإلهيّ مرّ في طريقه بموسى عليه السلام، فلما رآه
سأله: (بم أمرك؟)، فقال له: (بخمسين صلاة كل يوم)، فقال موسى عليه السلام:
(أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك فارجع
إلى ربك فاسأله التخفيف)، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم – إلى ربّه
يستأذنه في التخفيف فأسقط عنه بعض الصلوات، فرجع إلى موسى عليه السلام
وأخبره، فأشار عليه بالعودة وطلب التخفيف مرّةً أخرى، وتكرّر المشهد عدّة
مرّات حتى وصل العدد إلى خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، واستحى النبي – صلى
الله عليه وسلّم أن يسأل ربّه أكثر من ذلك، ثم أمضى الله عزّ وجل الأمر
بهذه الصلوات وجعلها بأجر خمسين صلاة.
وقد شاهد النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ في هذه الرحلة الجنّة ونعيمها، وأراه جبريل عليه السلام الكوثر، وهو
نهرٌ أعطاه الله لنبيّه إكراماً له، حافّتاه والحصى الذي في قعره من
اللؤلؤ، وتربته من المسك.
وفي المقابل، وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
على أحوال الذين يعذّبون في نار جهنّم، فرأى أقواماً لهم أظفار من نحاس
يجرحون بها وجوههم وصدورهم، فسأل جبريل عنهم فقال: (هؤلاء الذين يأكلون
لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).
ورأى أيضاً أقواماً تقطّع ألسنتهم
وشفاههم بمقاريض من نار، فقال له جبريل عليه السلام: (هؤلاء خطباء أمتك من
أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب،
أفلا يعقلون؟).
ورأى شجرة الزّقوم التي وصفها الله تعالى بقوله:
{والشجرة الملعونة في القرآن} (الإسراء :60)، وقوله: {إنها شجرة تخرج في
أصل الجحيم، طلعها كأنه رءوس الشياطين} (الصافات :64 –65).
ورأى مالكاً
خازن النار، ورأى المرأة المؤمنة التي كانت تمشط شعر ابنة فرعون، ورفضت أن
تكفر بالله فأحرقها فرعون بالنار، ورأى الدجّال على صورته، أجعد الشعر،
أعور العين، عظيم الجثّة، أحمر البشرة، مكتوب بين عينيه (كافر).
وفي تلك
الرحلة جاءه جبريل عليه السلام بثلاثة آنية، الأوّل مملوء بالخمر، والثاني
بالعسل، والثالث باللبن، فاختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إناء اللبن
فأصاب الفطرة، ولهذا قال له جبريل عليه السلام: (أما إنك لو أخذت الخمر غوت
أمتك)ـ رواه البخاري ـ.
وبعد هذه المشاهدات، عاد النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ إلى مكّة، وأدرك أن ما شاهده من عجائب، وما وقف عليه من مشاهد، لن
تتقبّله عقول أهل الكفر والعناد، فأصبح مهموماً حزيناً، ولما رآه أبوجهل
على تلك الحال جاءه وجلس عنده ثم سأله عن حاله، فأخبره النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ برحلته في تلك الليلة، ورأى أبو جهل في قصّته فرصةً للسخرية
والاستهزاء، فقال له: (أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟)، فقال له
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نعم)....
فانطلق أبو جهل ينادي بالناس
ليسمعوا هذه الأعجوبة، فصاحوا متعجّبين، ووقفوا ما بين مكذّب ومشكّك،
وارتدّ أناسٌ ممن آمنوا به ولم يتمكّن الإيمان في قلوبهم، وقام إليه أفرادٌ
من أهل مكّة يسألونه عن وصف بيت المقدس، فشقّ ذلك على النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ لأن الوقت الذي بقي فيه هناك لم يكن كافياً لإدراك الوصف، لكنّ
الله سبحانه وتعالى مثّل له صورة بيت المقدس فقام يصفه بدقّة بالغة، حتى
عجب الناس وقالوا: (أما الوصف فقد أصاب)، ثم قدّم النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ دليلاً آخر على صدقه، وأخبرهم بشأن القافلة التي رآها في طريق عودته
ووقت قدومها، فوقع الأمر كما قال.
وفي ذلك الوقت انطلق نفرٌ من قريش
إلى أبي بكر رضي الله عنه يسألونه عن موقفه من الخبر، فقال لهم: (لئن كان
قال ذلك لقد صدق)، فتعجّبوا وقالوا: (أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت
المقدس وجاء قبل أن يصبح؟)، فقال: (نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك،
أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة)، فأطلق عليه من يومها لقب (الصديق).
وكان
في هذه المواقف المتباينة حكم إلهيّة عظيمة، ففي تصديق أبي بكر رضي الله
عنه إبرازٌ لأهميّة الإيمان بالغيب والتسليم له طالما صحّ فيه الخبر، وفي
ردّة ضعفاء الإيمان تمحيصٌ للصفّ الإسلامي من شوائبه، حتى يقوم الإسلام على
أكتاف الرّجال الذين لا تهزّهم المحن أو تزلزلهم الفتن، وفي تكذيب كفار
قريشٍ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتماديها في الطغيان والكفر تهيئةٌ من
الله سبحانه لتسليم القيادة إلى القادمين من المدينة، وقد تحقّق ذلك عندما
طاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القبائل طلباً للنصرة، فالتقى بهم
وعرض عليهم الإسلام، فبادروا إلى التصديق والإيمان، ليكونوا سبباً في قيام
الدولة الإسلامية وانتشار دعوتها في الجزيرة العربية
*******************************
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم