هل الشعور هو المبدأ الوحيد للحياة النفسية؟
مقدمة:
إذا
كان من المؤكد إنالإنسان ككائن حي يشترك مع غيره من الكائنات الحية في
مجمل الوظائف الحيوية، فإنهيبدو أن الإنسان يزيد عن غيره من هذه الكائنات
بالوعي. و تكفي المقارنة بين نائم و يقظ لنكتشف الفرق بينهما فاليقظ يعرف
حالتهالنفسية بل و يستطيع وصفها بينما يلاحظ العجز عند النائم كما يستطيع
اليقظ أن يضبطأفعاله و يعطيها طابعا إراديا عكس النائم الذي يفتقد القدرة
على ذلك، إن الفرق بينالاثنين كامن في الشعور. و من ثمة لا نستغرب كيف أن
جميع الفلاسفة ينطلقون من مسلمة أن الإنسانكائن عاقل واع.لكن إلى أي مدى
تصح هذه المسلمة؟ هل الشعور يطبع كل سلوكاتنا ليكون هو المقوم الوحيد
لحياتنا النفسيةأم أن الشعور لا يشمل كل الحياة النفسية بل بعضها مما يفتح
المجال لفاعلية أخرىتؤثر في السلوك هي فاعلية اللاشعور؟
الشعور مبدأ وحيد للحياة النفسية
النظرية
التقليدية: اعتقد الكثيرمن الفلاسفة و من بعدهم علماء النفس أن الشعور
قوام الحياة الإنسانية و لعل أوضحاتجاه فلسفي أكد هذه الحقيقة و بشكل قطعي
هو الاتجاه العقلاني الذي أرسى دعائمهديكارت من خلال الكوجيتو "أنا أفكر
إذن أنا موجود" و قوله:" لا توجد حياة خارج الحياة الشعورية سوى الحياة
الفيزيولوجية".
غير أن الفكرة أخذت عمقها مع علمالنفس التقليدي و عبر
عنها برغسون مؤسس علم النفس الاستبــطاني و معه وليامجيمس في بداية حياته
هذا الأخير الذي كتب يقول "إن علم النفس هو وصف وتفسير للأحوالالشعورية من
حيث هي كذلك" لقد ناضل علماء النفس التقليديون في البدء ضد النزعةالمادية
السلوكية التي أنكرت وجود النفس و رأت في الظــــــــــــواهر النفسية و
الأحوالالشعورية مجرد صدى للنشاط الجسمي، غير أن فكرة الشعور كأساس للحوادث
النفسية تعززتمع الظواهرية، إذا أعطى إدموند هوسرل بعدا جديدا للمبدأ
الديكارتي "أنا أفكر إذنأنا موجود" و حوله إلى مبدأ جديد سماه الكوجيتاتوم و
نصه "أنا أفكر في شيء ما،فذاتي المفكرة إذن موجودة". و معناه أن. الشعور
لا يقوم بذاته و إنما يتجه بطبعه نحوموضوعاته. يقول: " لا تعني كلمة قصدية
شيئا آخر غير تميز الوعي بخاصية أساسية وعامة هي كونه وعيا بشيء ما، وكونه
يحمل في ذاته، بصفته "أنا أفكر"، الشيء المفكر فيه". أي كل شعور هو شعور
بموضوع ما.
يلزم عن موقف كهذا أن لا حياة نفسية إلا ما قام على الشعور
أي لا وجودلفاعلية أخرى تحكم السلوك سوى فاعلية الوعي و الشعور و من ثمة
فعلم النفس التقليديعلى حد تعبير هنري آي في كتابه الوعي "و قد قام علم
النفس التقليدي على المعقوليةالتامة هذه و على التطابق المطلق بين الموضوع و
العلم به و تضع دعــــواه الأساسية أنالشعــور و الحياة النفســـية
مترادفـــــان".
إذا أردنا أن نقرأ الحجة التي يركن إليهاهؤلاء وجدناها
منطقية في طابعها فإذا كان ما هو شعوري نفسي فما هو نفسي شعوري أيضاو ما هو
خارج الشعور لا يمكنه إلا أن يكف عن الوجود إذ كيف السبيل إلى إثبات ما
لايقبل الشعور و يلزم عن ذلك أن الحياة الشعورية مساوية تماما للحياة
النفسية و العكسصحيح. زيادة على هذه الحجة، نجد شهادة الشعورذاته كملاحظة
داخلية.
المناقشة:
إذا كان الاعتقاد بأن ما
هو شعوري نفسي صحيحا فإنعكس القضية القائل كل ما هو نفسي شعوري غير صحيح
من الناحية المنطقية إذ الأصح أنيقال بعض ما هو نفسي شعوري أما من الناحية
الواقعية فالسؤال الذي يطرح هو كيف نفسربعض السلوكات التي نؤتيها و لا ندري
لها سببا.
ب- النظرية اللاشعورية: التحليل النفسي: قبلالحديث عن
النظرية اللاشعورية ينبغي أن نفرق بين المعنى العام للاشعور و بين
المعنىالخاص أي المعنى السيكولوجي، فالأول يعني كل ما لا يخضع للوعي
كالدورةالدموية، أما المعنى الثاني فيقصد به مجموع الأحوال النفسية
الباطنية التي تؤثر فيالســلوك دون و عي منا و هذا ما قصده فرويد باعتباره
رائدا للتحليل النفسيالقائم على فكرة اللاشعور، إذ الـــلاشعور لديه هو ذلك
الجانب الخفي من الميول والرغبات التي تؤثر في السلــــوك بطريقة غير
مباشرة و دون وعي إن فكرة اللاشعور طرحت قبل فرويد لقد اعترض ليبنتز على
فكرة ديكارت القائلة أن النفس قادرة على تأمل كل أحوالها و من ثمة الشعور
بها. لكن محاولة ليبنتز الفلسفية واجهت اعتراضات منها كيف يمكننا أن نثبت
بالوعي و الشعور ما لا يقبل الوعي و الشعور.إلاّ إن تقدم علم النفس و
الاهتمامبالمرضى النفسيين أدى إلى نتائج هامة و على الأخص مع المدرستين
الشهيرتين فيعلم النفس.المدرسة العضوية: كان تفكير الأطباء في هذه المدرسة
يتجه إلىاعتبار الاضطرابات النفسية و العقلية ناشئة عن اضطرابات تصيب المخ،
و يمثل هذاالرأي الطبيب الألماني وليم جريسنجر (1818-1868م) لتنتشر بعد
ذلك آراء جريسنجر وكانت تعالج الاضطرابات النفسية بالعقاقير...المدرسة
النفسية: في مقابل المدرسة السابقة اعتقد بعض الأطباء ذويالنزعة النفسية أن
الاضطرابات النفسية تعود إلى علل نفسية و من المؤسسين الأوائللهذه
المدرســة "مسمر" (1784-1815م) الذي اعتقد بوجود قوة مغناطيسية تحكم النفس و
أن الأمرض ناتجة عن اختلال في هذه القوة و من ثمة كان جهد الطبيب ينصب على
إعادة التوازنلهذه القوة. و من أشهر الأطباء الذي استخدموا التنويم في
علاج الأمراض برنهايم( (1837-1919م) و لقيت هذه النظرية رواجا و خاصة بعد
انضمام شاركو إليها بعد ما رفضهامدة طويلة في هذه الأثناء كان فرويد يولي
اهتماما إلى كيفية علاج الأمراض النفسيةفسافر إلى فرنسا أين اشتغل بالتنويم
ثم عدل عنه بعد حين،و ماكان لفرويد أن يبدع النظرية اللاشعورية لو لا
شعوره بعجز التفسير العضوي للاضطراباتالنفسية وكذا عجز النظرية الروحية و
يمكن توضيح وجهة النظر اللاشعورية من خلال الاجابة على الأسئلة التالية:
إذا كان هنالك لاشعور ما الدليل علىوجوده؟ كيف يمكن أن يتكون و يشتغل؟ و
كيف يمكن النفاذ إليه؟ حرص فرويد على بيان المظاهر المختلفة التي يبدو و من
خلالها البعد اللاشعوري للسلوكو التي تعطي المشروعية التامة لفرضية
اللاشعور إذ يقول فرويد "إن فرضية اللاشعورفرضية لازمة و مشروعة و أن لنا
أدلة كثيرة على وجود اللاشعور منها:
الاضطرابات أو العقد النفسية و
الأعراض العصبية ،كمظاهر تدل على أن الحياةالنفسية حياة لا شعورية فهي من
وجهة نظر فرويد تعبير مرضي تسلكه الرغبة المكبوتةفيظهر أعراضا قسرية تظهر
الاختلال الواضح في السلوك. هذا ما استنتجه فرويد من خلال أعمال "بروير" و
علاجه لفتاة كانت تعاني مرض الهستيريا. إن النشاطات الشعورية لا تولد
أعراضا عصبية و أن النشاطات اللاشعورية بمجرد ما تصبح شعورية فإن أعراضها
تزول.
الأفعال المغلوطة: التي نسميها عادة فلتات لسان و زلات قلم و
التي تدل على أنهاتترجم رغبات دفينة، لأن السؤال الذي يطرحه فرويد هو لماذا
تظهر تلك الأفعال مع أنالسياق لا يقتضيها، و لماذا تظهر تلك الأخطاء
بالذات لا شك أن الأمر يتعلق بوجه آخرللحياة النفسية، لأن الوعي لا ينظر
إليها إلا باعتبارها أخطاء، مع أن فهمها الحقيقيلا يكون إلا في مستوى لا
شعوري "فأنت ترى الإنسان السليم، كالمريض على السواء يبديمن الأفعال
النفسية ما لا يمكن تفسيره إلا بافتراض أفعال أخرى يضيق عنهاالشعور" .
أحلام
النوم: اكتسب الحلممعنى جديدا عند فرويد، إذ أوحت له تجاربه أن الرغبة
المكبوتة تتحين الفرص للتعبيرعن نفسها و أثناء النوم حينما تكون سلطة
الرقيب ضعيفة تلبس الرغبة المكبوتة ثوباجديدا وتطفو على السطح في شكل رموز
على الحيل اللاشعورية كالإسقاط والتبرير...إلخ.
و حاصل التحليل أن فرويد
يصل إلى نتيجة حاسمة أن المظاهر السابقةتعبر عن ثغرات الوعي و هي تؤكد على
وجود حياة نفسية لا شعورية .و بتعبير فرويدتكون هذه المظاهر "حجة لا
ترد"على وجود اللاشعور. لكي نفهم آليةاشتغال اللاشعور و طريقة تكونه يجب أن
نفهم أن الحياة النفسية تشدها ثلاث قوى هي الهو، الأنا, و الأنا الأعلى و
أن الصراع بين هذه القوى هو الذي يولد الكبت الذي يولد بدوره الأعراض و
الاضطرابات و العقد النفسية. لم تتوقف جهود فرويد على القول بحياة نفسية لا
شعوريةبل اجتهد في ابتكار طريقة تساعد على النفاذ إلى المحتوى اللاشعوري
لمعرفته من جهة ولتحقيق التطهير النفسي من جهة أخرى و هو ما يسمى بالتحليل
النفسي و يقوم على مبدأ التداعي الحر للذكرايات و العودة بها إلى ساحة
الشعــور. و بذلك يكون العلاج.
المناقشة: رغم
ما حققته النظريةاللاشعورية من نجاحات مهمة و عدت فتحا جديدا في ميدان
العلوم الإنسانية، فمن الناحيةالمعرفية أعطت النظرية فهما جديدا للسلوك إذ
لم تعد أسباب الظواهر هي مايبدو بل أصبحت أسبابها هي ما يختفي. أما من
الناحية العملية فالنظريةاللاشعورية انتهت إلى منهج ساهم في علاج
الاضطرابات النفسية. و مع ذلك كانتللمبالغة في القول باللاشعور انتقادات
لاذعة يمكن إجمالها في اثنين:
أولا: معرفياترتب على اللجوء البسيط إلى
اللاشعور نقل ثقل الحياة النفسية من مجال واع إلى مجالمبهم غامض و هذه
ملاحظة المحلل النفساني جوزاف نتان، كما ترتب على ذلك التقليل منشأن الشعور
أو الوعي و هي خاصية إنسانية و هو ما ترفضه الوجودية و الظواهرية معافكارل
ياسبرس يرفض أن يكون اللاشعور أساس الوجود لأنه ببساطة وجد لدراسة
السلوكالشاذ أو المرضي و لا مبرر لتعميمه، فالوجود أوسع من أن يستوعبه
اللاشعور و هو نفسالرفض الذي نجده عند سارتر الذي لا يراه سوى خداعا و
تضليلا إذ يتعارض مع الحرية،إن ربط اللاشعور بدوافع غريزية (الغريزة
الجنسية) آثار حفيظة الأخلاقيين والإنسانيين إذ كيف تفسر مظاهر الإبداع و
الثقافة الإنسانية بردها إلى ما دونها و هيالغريزة الجنسية.
ثانيا عمليا و تطبيقيا:
لم يحقق التحليل النفسي ما كان مرجوامنه إذ يعترف فرويد بصعوبة إثارة
الذكريات الكامنة و هو ما دفع بعض المحللين إلىتوسيع دائرة التحليل باعتماد
طريق جديد مثل إكمال الصورة المنقوصة أو إكمال حوار أوقصة ناقصة. أو
التعليق على بقعة الحبر...إلخ.
التركيب:وكتمثل
توفيقي نستطيع القول بأن الحياة الإنسانية حياة مركبة، حيث يلعب فيها كل
من الشعور واللاشعور دورا مركزيا. فإذا كان اللاشعور ضروريا لتفسير كثير من
السلوكات خصوصا منها المنحرفة والمرضية والشاذة ؛ فإنه لا يجب أن ننسى بأن
الحياة الإنسانية حرية وإرادة ومسؤولية، حيث يختار الإنسان كثيرا من
سلوكاته بكامل الوعي.
الخاتمة: حل المشكلة: إن
الحياة النفسية تتقاسمها تفسيرات مختلفة منها ما هو شعوري و منها
اللاشعــوري و حتى الاجتماعي و منه فليس الشعور مبدأ وحيدا للحياة النفسية.