منتدى ملكات تلمسان
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي 99560110
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي 380574
التسجيل

منتدى ملكات تلمسان
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي 99560110
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي 380574
التسجيل



أهلا وسهلا بك إلى منتدى ملكات تلمسان .
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

الرئيسيةالرئيسية  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  نسيت كلمة السرنسيت كلمة السر  رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Button11  دخولدخول  

خط خارجي - فور ألجيرياملاحظة مهمة : نحن (شبكة تلمسان العربي) لا ننسب أي موضوع لشبكتنا فمنتدانا يحتوي على مواضيع منقولة و مواضيع منقولة بتصرف و أيضا مواضيعنا الخاصة من نحن شبكة تلمسان العربي شبكه تهتم بتعريف عن مدينة تلمسان او ابراز ما تزخر به من امكانات سياحيه و طبيعيه ناهيك عن المدن الجزايريه الاخري من اجل تطوير هادا القطاع في بلادنا كما يهتم موقعنا بانجاز البحوث للطلبه و يحتوي علي اقسام اخري دينيه اجتماعيه و ترفيهيه منتدى تلمسان العربي الاحتراف هدفنا
!~ آخـر المشاركات ~!
شارك اصدقائك شارك اصدقائك اخر ضيفة مُسجل هو Sara66 فمرحباً به.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك اخر ضيفة مُسجل هو Sara66 فمرحباً به.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك جزائري يعاني من غلاء اسعار
شارك اصدقائك شارك اصدقائك عيد ميلاد سعيد مدير منتدى
شارك اصدقائك شارك اصدقائك هدا موقع يبين لك كيف تفتح حزب سياسي
شارك اصدقائك شارك اصدقائك تعرف علي مضاعفات عملية تكميم المعدة بالمنظار
1/1/1970, 03:00
1/1/1970, 03:00
30/8/2023, 15:33
15/4/2023, 11:32
20/11/2022, 11:22
22/9/2022, 18:18
إضغط علي شارك اصدقائك اوشارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!



 

 رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زائر
زائر
avatar



رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Empty
مُساهمةموضوع: رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي   رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Empty2/5/2013, 22:58

أريد أن أتعمق في فهم ما
يقوله. سؤال واحد يعنيني:



-ومتى تعود؟


-لا أدري.. أنا رجل عابر.


-ولكنني معنية بحياتك..


يجيب ساخراً:


-أيّ حياتيَّ تعنيك؟


أصمت لا أفهم ما يقصد.


يواصل:


-أنا لم أوفق في حياتي. ولذا
أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني
الحياة في المشهد الأخير؟



أصرخ:


-ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا
منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟



يضحك:


-ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد
أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما
مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته.



نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف
لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟
لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب
العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.



يستدرجني كلامه إلى حالة من
التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:



-أتدرين بماذا فكرت وأنا
أقبلك اليوم؟



-بماذا؟


-فكرت.. أنه إذا كانت كلّ
القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة.



-عجيب.. هل تصدق أنني عندما
عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش
بعدها".



يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق
في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول:



-لقد أدركت وحدك.. أنه دون
ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيـه الكفاية لتسمّى عشقاً.



أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن
تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليـها أن
تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر
في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من
اللامبالاة!



هذا كلّ ما علق في ذهني من
هاتفه.



لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة
حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد.



قال فقط، إنه يحمل معه رائحة
الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر.



وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن
أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.



ولكن في اليوم التالي، كانت
الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف
نائمة.



كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيـهة
بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة
الحبّ الدائمة التكرار.



الآن فقط، يمكن للصمت أن
يبكي.






حتمًا


نأتي الحب متأخرين قليلاً،
متأخرين دومًا.



نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا
يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام..
وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى
عناوين خيبتنا.



حتمًا.. نضج الحلم. ولكن
الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب رشدًا سريعًا؟!



جاء العيد.. ولقسنطينة عيد
آخر.



أعود إليـها بقلب متعدد
الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس من تحت ركام هائل من الأوهام.



وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه
. وقد تراكمت فيـها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيـها عمّال البلديّة
والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على
الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد.



أستعجل العودة إلى بيتي. حيث
أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ لفرحها..و"ثغاء" الخرفان
التي تنتظر فجرًا موتها.



أكره الأعياد. وهذا العيد كان
أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب.



انتابني هذا الإحساس، وأنا
أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن
أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي
بالذنب تجاهها.



زوجي كان قد غادر البيت
باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد صلاة العيد. فريدة ذهبت
كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد عادت بعد من الحجّ..
وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان نفسها التي كانت في البيت، لم
تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ
جلدها.



ماذا يفعل الناس صباح عيد
الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً.. وتقسيماً. فهنا لا يمكن
لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت
الذي يسكنه.



ولذا تعودت أن أراهم صباح
العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ، يقسّمن أجزاء
الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ.



هذا العام أتوقع أن تكون
الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة دينار جزائري. وهو
ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي لا يكلّف هذه الأيام أكثر من
رصاصة..



أطلب زوجي على الهاتف
لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان أرسل شيئًا إلى بيت عمّي
أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن
أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف بيننا الكلام.



أطلب من السائق أن يأخذ نصف
الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه أن يوصلني قبل ذلك إلى
المقبرة.



لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت
قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليـه وحدي. كما نذهب إلى موعد حبّ.



أكره أن أزوره في المناسبات.
ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات التي أعبر فيـها شارعاً أو مدرسة
تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه.



كان بيني وبين هذا الرجل،
الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة
له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر
مما حولي من أحياء.



كنت أجلس إليـه بين الحين
والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات
على مصائب الحياة.



وأحيانًا أغلق على نفسي باب
غرفتي. وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي. وأدعوه إلى الجلوس على طرف سريري. أقص عليـه
بعض ما حلّ بي. أستشيره. وأتوقع أجوبته. وعندما لا يأتي جوابه، وتبقى صورته صامتة،
أجهش بالبكاء.



أخاف أن أكون قد قلت له
الكثير عني. أخاف ألا أكون عند حسن ظنه. فلا أصعب من أن نبقى عند حسن ظن الأموات.



اليوم أيضًا، ككل المرات التي
كان يضيق بي فيـها القدر، وتخذلني الحياة، تقودني خطاي نحو هذا الشبر من التراب ،
أنبش فيـه عن جواب لأسئلتي الكثيرة.



ولكني هذه المرة لم أعثر على
جواب. وإنما عثرت على ناصر، وهو يـهم بمغادرة المقبرة.



ومما زاد من اندهشي، ألا تكون
زيارة قبر أبي في الأعياد إحدى عاداته. بل نقلت لي أمي منذ مدة ، أنه أفتى لها بأن
زيارة القبور والأضرحة غير مستحبة.



وكعادتي، لم أجادله في معتقداته،
ولا في وجوده هنا ، حيث لم أتوقعه.. كالعادة. اكتفيت بإبداء اندهاشي لوجوده، وفرحي
بلقائه.



ولكنني لم أمنع نفسي وأنا
أقبله، من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير، دون أن أتمكن من معرفة ما تغير
فيـه بالتحديد.



رد بشيء من السخرية:


-لقد فقدت كثيرًا من وزني في
الفترة الأخيرة..



ثم أضاف:


-كي لا أفقد معتقداتي!


لم أفهم ما يعنيـه. أجبته
بلهجة فرحة:



-هذا أفضل.. أنت تبدو أكثر
شبابًا هكذا..



أجاب بالسخرية نفسها:


- وواش اندير بشبوبيّتي..؟


هو ذا كعادته ، يستدرجني إلى
موضوع لن يكون من السهل الخوض فيـه. كتلك المرة التي طلبت منه فيـها، منذ سنوات أن
يأخذ الساعة الجدارية لإصلاحها، لأنها تتأخر عدة دقائق كل مرة، ولكنه رد هازئًا:



- روحي.. يا بنتي روحي، إحنا
رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن. وأنت قاعدة عقاب الساعة، تحسبي لي في الدراج
والدقائق. قرن كامل ما قلقكش.. وقلقوك الدقائق. حتى الراجل إذا نديـها لو يموت من
الضحك.. في هاذ البلاد.. الناس ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس!



أتفادى الدخول معه في جدل سيـهزمني
فيـه لا محالة. لأنه يرد على منطقي في الحياة، بمنطقه في معايشتها. وهو ما يجعل
الحق دائمًا إلى جانبه.



أقول كمن يعتذر:


-كنت على سفر. ولم أعد سوى
منذ يومين. طلبتك هذا الصباح لأعايدك.. ولكنني لم أجدك.



ردّ:


-أنا لا أقيم في البيت. كلنا
على سفر كما ترين، وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام!



يواصل بعد شيء من الصّمت:


-لأنه لم يعد لهم من شيء
يخافون عليـه.. أو يخافون منه.



أسأله مستفيدة من هذا السياق:


-وممّ أنت خائف؟


يرد بثقة وكأني وجهت إليـه تهمة:


-من الله.. من الله وحده.


أرد:


-كلنا نخاف الله..


يجيب:


-كيف يخاف الله من يطيع
أعداءه؟



أصمت. لا لأنني لا أقدر على
جوابه. ولكن لأنني أجد جدلنا هذا، أمام مقبرةٍ ذات عيد، ضربًا من الجنون. فنحن لم
نأت هنا لنتناقش ولا لنتشاجر.



جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر
والدنا، وهاهي ذي السياسة تطاردنا الآن في كل مكان، حتى في أسرتنا، وحتى في
دفاترنا، وحتى في المقابر.



أقول:


-ناصر خويا.. الناس تلتقي
اليوم لتتعايد، وتتصالح، وتتسامح،وأنت لا أكاد أسلم عليك حتى تنفجر في وجهي.. كن
أخي ولو صباح العيد.



يقول متذمّرًا:


أي عيد؟ أنظري حولك القبور
كلها جديدة، كلها طريّة، تستقبل كل يوم دفعة جديدة من الأبرياء.



-وما ذنبي أنا؟


-ذنبك.. أنك تقتسمين مع
الشيطان بيته وسريره.



أرد:


-لا أدري إن كان هذا الرجل
ملاكًا أو شيطانًا. لا أعتقد أنه يختلف عن الآخرين، سوى بكونه ضابطًا ساميًا تقع
على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن، هذا الوطن الذي أؤمن به أكثر من إيماني
بالملائكة.. والشياطين.



-ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين
ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور، ما فائدة ما تعلمته
إذن، عن حريّة الناس في اختيار مصيرهم؟



-ما تعلمته لم يفدني في شيء.
ولا حتى في اختيار مصيري، فكيف تريد أن أقرر مصير الآخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً
معترفاً بها رسميًا. ومهمتها تمثيل الشعب، والدفاع عن اختياره. أما أنا فلا يوجد
حزب ليدافع عني. وحتى أنت.. لم تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء، فلماذا تعجب أن
لا يكون لي اليوم رأي؟



يصمت. وكأنه لا يجد ما يقوله،
أو لا يجد جدوى من الكلام. يستعيد لهجة أكثر حناناً. ويقول وكأنه يودعني سراً.



-حياة.. انخاف عليك


أتمتم:


-من واش؟


يجيب:


-من كلّ شيء!


أرد بالحنان نفسه:


-لقد خفت عليّ دائماً من كلّ
شيء.



يجيب:


-ولكن هذه المرة أدري تمامًا
ما أقول. أتركي هذا الرجل، اطلبي منه الطلاق ما دام ليس لك أطفال منه.



أبتسم ثم أضحك لكلامه.


يسألني عاتباً:


-ما الذي يضحكك؟


أقول:


-تذكرت "ما" لو
كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطلاق لجنّت. هي التي تعتبر زواجي من هذا الرجل أكبر
مفاخرها.



يردّ:


-لا تهتمي بأمي. إنها تعيش
حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (الآخرين). في الواقع هي تستند إلى جدار من الوهم
الكبير. استندي إلى الله في أي قرار تتخذينه فهو لن يخذلك.



أقول:


-لقد استندت إليـه دائماً..
وإلى هذا القبر. وقدري نتيجة هذا. وكنت أتمنى أن تكون أنت أيضاً سندي. إنك كلّ ما
أملك في هذه الدنيا. ولكن ها نحن كالغرباء نلتقي مصادفة في المقابر.. لا تطلبني
ولا تزورني، وعندما أزورك لا أجدك.



يقاطعني بشيء من المرارة:


-ذات يوم.. لن تجدي صعوبة في
العثور عليّ. سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا.



أصرخ:


-ما هذا الذي تقوله.. أجننت؟


يقاطعني:


-الموت أقرب إلينا مما
تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا
في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئًا، على مقربة من شرطيّ.
عندما قتلوه، اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه شيئاً. تصوري: الآن بإمكانك أن
تموتي لا بسبب جريمة ارتكبتها، وإنما لأن هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة. حسب
المكان، أو الزمان، أو الهيئة التي يصادف أن تكوني عليـها وقتها. أي أننا جميعاً متهمون
مفترضون. يكفي أن تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات.. وتتطابق مع "أعراض
إرهابية"!



أقول:


-لا أطن أن أحداً يحب إيذاء
الآخر، أو قتله لمتعة القتل. ولكن كلّ واحد أصبح يعتقد أنه إن لم يكن القاتل،
فسيكون القتيل. إنها قضية ثقة. لقد فقدنا الثقة ببعضنا بعضاً. إنه زمن الانجراف
نحو الشر. يجب أن لا ننساق فيـه إلى ركوب هذا القطار المجنون. الحياة جميلة يا
ناصر، صدقني.. يكفي أن نضع فيـها شيئاً من الحب.



يصمت ناصر. ثم يحتضنني ويقول:


-أحياناً أتمنى أن أشبهك


-وأنا أتمنى دائماً أن أشبهك.
لقد باعدتنا الحياة أحياناً. ولكن لن يفرقنا شيء. أليس كذلك؟



يجيب:


-لا.. لن يحدث هذا.


يمشي خطوات ثم يعود، وكأنه
تذكر شيئاً. أو كأنه قرر أن يقول لي شيئاً، تردد في قوله. يـهمس:



-حاولي أن تأتي لزيارتنا في
البيت خلال اليومين القادمين. إنّ أمي ستعود بعد غد من الحج. إنني أنتظر عودتها
لأسافر. وأود أن أودّعك قبل سفري.



أسأله دهشة:


-تسافر إلى أين؟


-سأقول لك هذا في ما بعد. لا
تخبري أحداً بهذا الأمر.



ما يكاد يختفي، حتى أجلس منهارة
عند أقدام ذلك القبر. ويفاجئني البكاء.



أيّ زمن هذا الذي أصبح فيـه
الإخوة، يلتقون فيـه مصادفة في المقابر صباح العيد. فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع
من الموتى. ثمّ يفترقون، دون أن يدروا متى سيكون لقاؤهم القادم.. وفي أي عالم!






أنا التي ذهبت يومها أبحث عن
أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف
الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا
ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت طرفًا ثالثًا بيننا.



أثمّة في هذا البلد، عدوى
انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟



في المساء، جلست لياقةً
لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن لا آكل شيئًا من لحم تلك
الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب ما عانته من دوار البحر، لقضائها
شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية لباخرة.



زوجي كان مرهقًا بدوره إلى
درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة، عن أشياء عامة دون تحديد.
وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان
يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على السرير.



قلت له وأنا أعلق ثيابه على
المشجب:



-كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم
معي.. لا أفهم لماذا لا بد أن تقضي كل الأيام في مكتبك ..حتى الأعياد.



أجابني:


-إذا قضيت معك العيد، فمن
يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة 23 ألف طالب. أما مساجدها
فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم..



قلت:


-كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي
أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيـها كل على حده.



أوصلني هذا السياق إلى ناصر.
تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي. ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر
زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه
يبادله مشاعر الكراهية نفسها.



ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو
يقول بشيء من الارتياح:



-حسنًا أن تكوني قد التقيت به..


ثم يضيف:


-كيف وجدته؟


أعجب لسؤاله.. أجيب:


كالعادة.. ربما نحف بعض
الشيء، ولكنه بصحة جيدة.



يسألني :


-ألم يخبرك بشيء؟


أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى
كل الاحتمالات.



تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟
أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني
ليعرف مني ما يجهله؟



أجيب:


-لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا
أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها.



يسألني وهو يصلح من جلسته
مستندًا على السرير:



-ألم يخبرك أنه اعتقل؟


أصرخ دهشة:


-اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث
هذا؟!



-أثناء غيابك. لم أشأ أن
أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك.



أصاب بحالة ذهول.


أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل
وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم يعثروا على حجة كافية
لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه.



أسأل:


-ماذا فعل؟


يجيب:


-إن كثيرًا من الشبهات تدور
حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية..



أجبت بعصبية:


-ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا
يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي.



يقاطعني بلهجة صارمة:


-إن أخاك يتكلم كثيرًا .
ولولا لسانه لوفر عليّ وعليـه كثيرًا من المتاعب. إنه يعتقد أن الاسم الذي يحمله
يمنحه حصانة. ويعطيـه حق شتم السلطة وتحريض الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق
سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب
ألا يكون فيـها استثناءات حتى لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا!



ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم
أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زائر
زائر
avatar



رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي   رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Empty2/5/2013, 22:59



تركت لزوجي فرصة استعراض قوته
أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير.



لم تكن عندي رغبة في الدخول
معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته
بالتشاجر مع أخي.



رأيته فجأة يغرق في نوم عميق.
فلم أملك إلا أن أنزلق جواره.



وأحاول بدوري أن أنام مذهولة
من أمري.



لا أدري كيف مات غضبي.


الآن فقط اكتشفت أنه مات.
وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل قلمي وأشعلني في وجه الآخرين.



ألا تكون لك قدرة على الغضب،
أو رغبة فيـه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد
أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في
السابق من الأهمية، أو من المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها!



كانت عودة أمي من الحج، هي كل
ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل لقاءها: شوقي إليـها؟ أم
حاجتي إليـها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة ما يخبئ لي من مفاجآت؟



وأنا التي تعودت رؤية أمي
ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيـها الأبيض، وغطاء
رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء، اللاتي
يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب.



ولذا سعدت بالانفراد بها..
وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها، قبل أن تعود امرأة عاديّة.



لا تكاد تراني حتى تبادرني
بالسؤال:



هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟


أرد:


-لا


تواصل:


-لم تستفيدي من سفرك إلى
العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك.



أرد:


-بلى هو يناسبني.. ولكن هذه
المدينة هي التي تتعبني.



فتعود إلى حديثها عن الحج،
وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها.



تحكي عن الحرارة التي لا تطاق
هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا.. وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار..
وعن أسعار الذهب التي ارتفعت..



أستوقفها:


-"مّا" .. هل رفعت
لي دعاءً هناك؟



تجيبني متعجبة:


-طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل
ذلك دائمًا..



أقاوم رغبة جارفة في البكاء،
وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛ أواصل الاستماع إليـها تحكي..
وأنا سرًا أبكي.



أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات
ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر.. كعادتي.



أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثة
من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو لي أكبر من عمره.



أحسه رجلاً فوق العقد، فوق
الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في الأصولية حلاً لكل عقدهم
الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا
لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة وطنيّة.



لقد أثار هذا الطريق تاركًا
كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا يملكون شيئًا ليخسروه!



كان بإمكانه الحصول على أية
بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين كان يجد ثروته الداخليّة. ومع
أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يـهاجر كل يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر
صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب، واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة
حياته بحياة من هم أدنى منه، ونجحوا في حياتهم.



نجحوا في الحياة؟ في الواقع
لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين
غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيلات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة.
وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها.



لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيـه
الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليـها.



وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد
صوته بالرد عليـها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم
يكن في أناقة أحلامه!



أكان يدخل هو أيضًا حزب
الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا
من سجن يتربص بالملتحين.



جاء زمن شفرات الحلاقة إذن-أخيرًا
أصبحت متوافرة- نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا
زمن الوطن التنازلي؟



نزلت ،ومعها نزلت الشعارات
على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين
أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب.



أسأله بنبرة منخفضة:


-أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟
وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟



يجيب:


-إني أسافر كي أعود. ولكن إن
بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة
نحو قدري.



ستتحمل غيابي أكثر من تحملها
خبر سجني أو موتي.



-ولكن هل هذه الخيارات محدودة
حقًا إلى هذا الحد؟



-طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن
الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة.



أقول:


-لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت
أثناء غيابي.



يقاطعني:


-وأبلغك أيضًا أنه تدخل
للإفراج عني.



-وهل هذا غير صحيح؟


-نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة
متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير
حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى
يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا
يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك
من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟



استمعت إليـه، كمن لا يصدق
أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك
عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن!



فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى
الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون.



أنا التي لم أقتنع يومًا
بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب
وحججًا لإقناع أمي بذلك.



عدت يومها محملة بقبل ناصر..
وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ،
الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيـه..
وأستنجد به عندما أضع مولودي!



في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك
الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى
على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل
هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز
على أي شيء عداه.



أكثر من كلماته، علقت بي رائحته
الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي
يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو.



وأذكر أن ديدرو الذي وضع
سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا،
والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة
الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللاشعور، وليس المنطق.



المخيف مع هذا الرجل. أنه
جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس.



بل إنه وضعني في حالة من فوضى
الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليـه، بعد أن
خرجت معرفتي به عن المنطق.



ولذا قررت يومًا التفرغ
لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري ميشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو
ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل
سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب.



أن تعيش مأخوذا بلغز رجل
غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا
إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب
سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى.



ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف
كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيـه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت
التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها.



تطارده بالأسئلة لتعرف برجه،
وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على
قراءاته!



إن في الحب كثيرًا من التلصص
والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق!



سؤالي الأول كان. مالذي أوصل
هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليـه خواطره؟ ولم أجد من
جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من
خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة
أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد
ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في
طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته
إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى:



"في ردهة روحك، ظنًّا
منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا.
خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث"



على هامشها كتب: " لا تبحث..
ستضع ذكاءك في خدمة الجنون"



ثم خاطرة أخرى:


" في غياب الشمس تعلم أن
تنضج في الجليد"



وأضاف باللون الأزرق أسفلها
" أو في جريدة!" .



ثمّ:


"إذا كنت الإنسان المقدم
على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على
الموت فلا تهتم!".



أن يطالع أحد هواجسك في كتاب،
تركت عليـه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو
يتلصص عليك من حيث لا تتوقع .



الأشياء الحميمة، نكتبها ولا
نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي.



بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك
الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد.



أحب تلك النصوص التي تكتب
بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ،
وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري
ميشو":



"في استطاعتك أن تكون
مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! "



ويدخل العزف الآخر.ليضيف
بنوتة مفاجئة " أحقا " .



أو هذه التي تأتي كما في عنف
"بيرليوز" في سيمفونيته المدمرة



"ما الذي تهدمه عندما
تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" .



وترد أصابع واثقـة.. بقلم
أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق
بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته.



"لا تتعجل أخطاءك.لا
تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذي تضعه مكانها ؟ "



أو


" لم ألبث أن انتبهت
أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه"



أو


"النوم في النهاية، هو
أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها
الجملة الأولى في السيمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟".



ويصمت الأزرق.


قضيت أياما في العودة إلى
"أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين
في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم
هنري ميشو إلا به، أو عليـه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء.
وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا.



اكتشافي الآخر كان ، أن هذا
الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر
كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه
من الرجال .



ألأنني كنت مسكونة بهاجس
ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليـه من بين فكرتين ؟



ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات
مذهلة . تكتشف فيـها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها.



و أخرى شخصًا آخر، لم تكن
تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض
الخواطر هو قائلها. كذلك البيت :



"لا اسم لي. اسمي تبذير
للأسماء"



وهل كان ناصر عبد المولى إلا
تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟



كيف يمكن أن تولد أثناء حرب
التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من
المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك.



قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي
ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية.



قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح
له بمتابعة الأخبار، أو بطالعة جريدة، فتح عينيـه على غياب والده، وعلى الحضور
الدائم لعبد الناصر، مبتسمًا ومحييًا في صورته الشهيرة. ليس فقط لعدم وجود جهاز
للتلفزيون في بيتنا في تلك الأيام، ولن لأنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ،
تزين غرفة متواضعة للاستقبال.



وأذكر تمامًا أن تلك الصورة
وصلتنا إلى منفانا بتونس. عن طريق صديق لوالدي كان يدعى سي عبد الحميد، وكان يتردد
علينا أثناء وجود والدي في الجبهة، محملاً بالهدايا وبمبلغ من المال، لا أدري إن
كان منه أو بتكليف من الجبهة.



ذات مرة زارنا، وراح يلاعب
ناصر كعادته. ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" وإذا بناصر، و لم يتجاوز
الرابعة من عمره، يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد الناصر". وتروي
أمي أن سي عبد الحميد ظل مذهولاً للحظات قبل أن يجيبه بمنطق الأطفال" سآتيك به
في المرة القادمة".



ولأنه كان يتردد على القاهرة
لإجراء بعض المشاورات السياسية، وكان أيضًا مسؤولاً عن متابعة شؤون الطلبة
الجزائريين هناك، والذين كان من بينهم طالب لم يكن يدعى بعد هواري بومدين، فقد
أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر، مع جملة من الهدايا التذكارية.



منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا
في بعض الأمسيات أن تستمع من تونس إلى" صوت العرب من القاهرة"



وهو يبث خطابات لجمال عبد
الناصر، وأناشيد عربية ملتهبة، لازلت أحفظ بعضها، كما يحفظ الطفل في ذلك العمر
أناشيد تعلموها في روضة، وعلقت بذهنهم إلى الأبد . ثم ننام سعيدين، دون حاجةٍ إلى
التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا بعد.



لقد كنا نتفرج على العالم من
شاشة جداريّة.مثبتة عليـها صورة عبد الناصر، قبل أن يأتي يوم تجاور فيـه صورة أبي
على الجدار صورة عبد الناصر، بحجم أصغر، ولكن بالحجم الكبير ذاته الذي نقلتها به
الصحافة وهي تعلن في صيف 1960 على صفحاتها الأولى، مقتل أحد قادة الثورة على يد
المظليين الفرنسيين، بعد معركة ضارية في مدينة باتنة.



أذكر أنني احتفظت أيامًا بتلك
الجريدة، كنت خلالها أفتحها بين الحين والآخر على الصفحة الأولى، وأقضي وقتًا
طويلاً في تأمل ملامح أبي. كما توقف عندها الزمن إلى الأبد، قبل أن أفاجئ نفسي
يومًا أقتطعها بمقص، وأقنع أمي بوضعها هي، ولا أية صورة أخرى في إطار، لتصبح هي
الصورة الثانية في بيتنا.



ربما ولدت لدّي يومها تلك الهواية
السري، التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي، إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة، والتي
استيقظت فجأة داخلي على أيام الانتفاضة الفلسطينيّة، عندما بدأت أقضي وقتًا طويلاً
في تأمل صور الشهداء. تلك التي درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل أية
عملية انتحارية. والتي كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم. وكنت
أنا أحتفظ بتلك الصفحة من الجريدة.. عملية بعد أخرى. ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في
كيس وأضعها بعيدًا عن متناول يدي.. ومتناول نظري، كي أرتاح.



وكنت قد نسيت أمر تينك
الصورتين، اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر، لم تعودا جزءًا من ديكور غرفة
استقبالنا، التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها صورتان في تلك البساطة. قبل أن
أعثر عليـهما مصادفة ، منذ سنة تقريبًا، في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ، حيث تعودت
أمي أن تخبئ أشياء تحتفظ بها ، منظمة ومرتبة و"مدفونة " في حقائب
وصناديق حديدية ، من ذلك النوع الذي اندثر ،مذ أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة
، والتي أتوقع أن تكون أمي قد استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة
1962 غداة استقلال الجزائر.



أذكر أنني عثرت على تينك
الصورتين بفرح كبير، فقد أيقظتا في شيئًا ما ، أو زمنًا ما ، لفرط بعده، ولفرط
صغري، بدا لي وكأنه لم يكن.



كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ
أمي بها هكذا، لكونها أهم من أن ترمى، وأقل أهمية من أن تشغل مكانًا في بيتنا.



ترددت يومها في تركهما لغبار
النسيان، وكأنني لم أصادفهما. ثم ترددت في أن آخذ واحدةً دون الأخرى. فقد كانتا
ذاكرة لزمن واحد. حتى إنه لم يكن بإمكان ذاكرتي البصريّة أن تفصل إحداهما عن
الأخرى. ولذا قررت أن آخذهما معًا إلى بيتي، حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي..
أمام احتجاج أمي ودهشة زوجي.



لم أشعر برغبة في تقديم أية
شروح أحد. فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي. وربما أنا وناصر لا غير.



ولكن ناصر أيضًا فاجأني
بتعامله الصامت مع تينك الصورتين . وكأنه لم يكن ثالثهما.



ولم أشأ أن أستدرجه إلى
اعترافات طفوليّة قد يكون ألغاها منطق الرّجولة تأملت فقط صمته أمامها، واستنتجت أنه
ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما، وولع الآخر الأبوي به، وأنه تركهما لي، ليصبحا
قضيتي وحدي.



ولكن هاجسي الأول ظلّ هو. فهو
رحل منذ أكثر من شهر، وأمي تطاردني بأسئلة عنه، لا أجد لها جوابًا.



-لماذا ذهب إلى ألمانيا؟
الناس يذهبون عادة إلى فرنسا.. أنا لم أسمع بأحد سافر إلى ألمانيا..



ولا ادري ماذا أقول لها. أنا
نفسي لم أعرف بوجهته إلا منذ أسبوع.



كان ذلك عندما حدثني على
الهاتف. وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما يريد. أجاب :" الحمد
لله" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليـه فرد أنه سيتصل بنا كلما
استطاع ذلك. فهمت أنه لا يريد أن يقول شيئًا على الهاتف. ثم سألني إن كانت أمي
تقيم معي منذ سفره. أجبته أنها تصر على البقاء في بيتها . قال" لا تتركيـها
كثيرًا بمفردها إذن.." ثم أضاف للتأكيد " أرجوك..".



أمي رفضت منذ البدء، فكرة
الانتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر. فهي ترفض ذلّ الإقامة عند صهرها. خاصّة أنها
تملك شقة جميلة، وأنها متعلقة بكل أشيائها الصغيرة.



ولكنها، منذ ذلك الحين، أصبحت
تزداد تعلقً بي. لا تكفّ عن زيارتي، أو طلبي هاتفيّاً ، واستشارتي في كل شيء،
ومرافقتي إلى كل مكان، حتى بدأت أشعر من فرط حاجتها إلي بأنني أصبحت أنا أمها.



وكنت أتفهم حاجتها الدائمة
إلى حناني. فهي التي ترمّلت في سن العشرين، وتيتّمت قبل ذلك في طفولتها، لا تفهم
أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها، وأن يكون قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر.. وابن
غائب.



وهكذا أصبحت أستمع برحابة
صدر، إلى تذمرها، وشكواها، وثرثرة أمومتها. ولا أملك إلا أن أستسلم مكرهة لكل نزواتها.
حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم إلى " الحمّام التركي" برغم
أنني لم أكن أشاركها يومًا حماسها لطقوس النظافة الأسبوعية، في هذا الحمّام
الجماعيّ.



في الواقع كنت أتفهم منطقها.
الحمّام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيـه بكل نساء المدينة. ومثلهنّ يمكنها أن
تثرثر وتحكي ماجدّ في حياتها، وهي تباهي بمشترياتها الجديدة، وصيغتها، وثيابها
التي لم يرها رجل.



تمامًا كما كانت في زمنٍ مضى
تستعرض أواني الحمّام الفاخرة. من طاسة فضّيّة، ومشط من العاج والفضة بأسنان
دقيقة، ومناشف فاخرة مطرزة، و"صابون ريحة" مستورد، وعطور، ومستحضرات
لإزالة الشعر أو صبغة، وكثير من التفاصيل النسائية التي تعودت أن أراها في طفولتي
مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة، موجود دائمًا في ركن من الخزانة. جاهز
للاستعراض الأسبوعي.



بعد عشرين سنة، لم تتغير
الأشياء كثيرًا. صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل الآن من خزانة أمي إلى
الصالون، ليتحول وعاءً فاخرًا يحتوي نبتة خضراء تزين قاعة الجلوس.ولكن عقل أمي لم
يفرغ تمامًا من محتوياته.. ولا من عقليّته الأولى. لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر.
ولم يعد هناك من ضرورة الآن لتلك الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان
السماويّ، بأثواب أمي الحميمية، وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل.



وأذكر أنني في طفولتي، كثيرًا
ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً، كما نفتح صندوق العجائب. وأجلس على طرف السرير.
أحلم بذلك العالم النسائيّ الذي لم أكن أعرفه بعد.



أتفرج على أشياء أمي
الصغيرة.. أحلم أن يكون لي يومًا جسد يشبه جسدها تمامًا، أملأ به كل تلك الأثواب
الحميمية.



أحلم.. أحلم.ثم أغلق على جسد
أمي في حقيبة. أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة. وأغادر مسرعة تلك الغرفة قبل أن
تفاجئني أمي الأخرى. تلك التي لا جسد لها.



هي ذي أمي" الحاجة"
بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين، تسبقني كما في طفولتي. فألحق بها من قاعة إلى
أخرى داخل الحمام دون جدل.



في تلك القاعات المتفاوتة
التدفئة، والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو الأبعد، تصر أمي على القاعة الثالثة،
الأشد حرارة. ولا أجادلها، رغم كراهيتي لهذه القاعات بالذات.



ألحق بها. أمشي رويدًا رويدًا
على بلاط مائيّ، جاهز للتّزلج والتهشم.



أذكر أنني شاهدت يومًا امرأة،
تقع أمامي.. وهي ممسكة برضيع، فيفلت من يدها، ويسقط ليموت بعد ساعات في مستشفى.



أدخل قاعة، يتصاعد البخار فيـها
من البرك الجدارية. ويعلو صراخ طفل هنا.. وضحكات نساء هناك.



أمام أول بركة، أجلس
أرضًا،دون سؤال. أو بالأحرى بسؤال واحد:



لماذا منذ طفولتي الأولى، كنت
أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إلا من البخار والماء، والتي لا تؤثثها سوى
أجساد نساء عاريات؟



ترى احترامًا للأنوثة، التي
كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ، ولا تضاريس "طبيعية"؟


أم لأنني منذ البدء، خلقت لأكون كائنًا من ورقٍ
وحبر، تلغيـه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار؟
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Up_arr10 رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Down_a10

mohend
عضو فعال
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Stars17
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي 172-34


رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Empty
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Thread10موضوع: رد: رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي تكملة رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي Icon_m112010-02-01, 15:31



تجلس أمي جواري. تضع أشياءها.
أما أنا فلا أشياء لي، سوى ما تركته في الخارج من أثواب أحضرتها إكرامًا لها..
فيما لو التقينا بمن يعرفني.



تزعجني هذه الفكرة. فألف حول
جسدي تلك الفوطة من جديد، وأعيد ربطها حول صدري تلقائيّاً.



ولكن صوت أمي يباغتني، يعيد
كلمات أعرفها تمامًا، لفرط ما سمعتها في هذا الحمام نفسه، مذ أصبحت صبية تستحي من
أنوثتها، وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد عنه تهمة.



هنا أنت تتعلمين من عيون
الآخرين، كيف تنكرين جسدك، وتضطهدين رغباتك، وتتبرأين من أنوثتك. فقد علموك أن ليس
الجنس وحده عيبًا. وإنما الأنوثة أيضًا.. وكل ما يشبهني ولو صمتًا.



تصرخ أمي بي كعادتها"
انزعي عنّا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة.



تراها تظن جسدي أحد أملاكها
الخاصة، لأنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه أيضًا على الناس، كأحد إنجازاتها،
واجدة فيـه عزاءً وتعويضًا عما آل إليـه جسدها هي؟



فجأة، وجدتني أعي أحد أسباب
علاقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان. ففي هذه المدينة التي ليس فيـها أي مكان لما
هو حميميّ وخاص، الحمام هو المكان الذي تنتهك فيـه حرمة الجسد وحياؤه. تسلط عله
الأضواء، والنظرات الفضوليّة للنساء. تتالى عليـه الأيدي حكّاً ودلكًا وتشطيفًا،
ساكبة عليـه كميّات هائلة من الماء. وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته.



فهل الأنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤلاء
النساء اللاتي يولدن ويمتن غالبًا، دون أن يتعرين تمامًا أمام رجل، علاقة شبقية ما
بهذه الكميات الهائلة من الماء، التي يسكبنها على أجسادهن سطلاً بعد آخر، ساعات
بأكملها دون توقف، بلذة غامضة ما، وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية، وكأنهن جئن
هنا، ليكنّ على موعد مع أجسادهن لا غير؟ أم أن جميع النساء، هن على اختلاف أجناسهن
وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك الأنثى التي حكمت بلدًا في عظمة مصر،
دون أن تغادر حمامها تمامًا!



.. وأنهن يعتقدن ، عن صواب أو
عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات، على عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش
سيحملن تاجه لبضع لحظات-في العتمة- ويعدن بعدها لحياتهن العاديّة.



العتمة..!


اكتشف الآن إحدى نعم العتمة.
وأنا أتفرج على أجساد مشوهة الأنوثة، مترهلة البطون، متدلّية الصدور. وأفهم أن
يكون الله ، بحكمته تعالى، قد خلق - العتمة- أيضًا ليمنح كل مخلوقاته حق ممارسة
الحب في الظلام.



وإلا..فمن من الرجال، مهما
جمحت به رغبته الجنسية.. أو حالته المتقدمة من السكر، سيقدر على مضاجعة نساء على
هذا الشكل.. في عز النهار؟



أحتفظ بتلك التعليقات لنفسي،
تمامًا كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي، وكأنني أرفض أن أختلط أو أحسب على هذا
الرهط من النساء، اللاتي تجلس كل واحدة منهن الآن جوار بركة ماء، وحولها سيول
سوداء، أو بلون الحناء، حسب الصبغة التي وضعتها على شعرها، والتي تقوم الآن
بغسلها، محولة هي وغيرها بلاط الحمام، إلى "دانوب" متعدد الألوان.



وفجأةً، تدخل الحمام ثلاث
نساء. متوسطات العمر، متوسطات الجمال، لكن بإغراء وبمظهر "مميز". فقد
دخلن عاريات. شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع، بينما العادة هنا أن تدخل جميع النساء
بالفوطة ولا يخلعنها إلا وهن جالسات.



وفي لحظة، التفتت نحوهن
الأعماق، وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب.



أفهم من مسبات أمي ونعوتها
لهن، أنهن مومسات. مومسات،



وهل مازال في هذه المدينة
مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة الحركة، حيث يحدث لبعض البائسات
أن يقفن.



ينقسم تلقائيا، قاعة الحمام،
إلى شطرين. النساء" الشريفات" من جهة، والنساء" المشبوهات" في
الطرف الآخر.



الطرف الأول يلاحق الطرف
الثاني بالتعليقات.. والغمزات.. ونظرات الازدراء، التي مصدرها إحساس مفاجئ بفائض
عفة وشرف. بينما يتجاهل الثاني تمامًا وجود الطرف الأول. وتتصرف النساء الثلاث،
وكأنهن بمفردهن. ويضحكن بصوت عالٍ ، ويتغاسلن.. ويتغازلن استفزازًا للأخريات.



وجدت لذة في وجودي الشاذ بين
طرفين، دون أن أنحاز أخلاقياً لأحدهما دون الآخر.



وربما كنت سرًا أتسلى بكتابة
بعض التعليقات في ذهني. هنا، وسط البخار والماء والشهوة.. والنفاق النسائي. فقد
كنت على مسافة وسطية من العفة.. والخطيئة. هناك حيث يقف الكاتب.. وحيث يقف أي إنسان
طبيعي.



فأنا أدري أن كل إنسان عفيف،
يحمل في داخله قدرًا كافيًا من القذارة، قد تطفو يومًا فتغرق حسناته، تمامًا كما
أن في أعماق كل إنسان سيء، شعلة صغيرة للخير، ستضيء داخله يومًا ، في اللحظة التي
يتوقعها الأقل .



وأدري قبل كل هذا، أن بإمكان
أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة. لقد خلقت بنصفين معًا. ولكنها كلما
انحازت إلى أحد نصفيـها، تمادت في السخرية والتشهير بالنصف الآخر.



تهجم أمي على ذراعي، وتبدأ في
دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها، رافضة أن تسلمني إلى "طيابة".



تواصل متحدثة إليّ شتم تلك
"الفاجرات". تقول إن العائلات الكبيرة، تعودت أن تستأجر الحمام وتحجزه
مرة في الأسبوع، لتدعو القريبات والصديقات على حسابها.



كل هذا، حتى تضمن عدم
اختلاطها بالغرباء، وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة فانتهكت حرمتها، وأهانت
أهلها.



لا أجيب. أتظاهر بالاستماع
فقط.



فقد كنت مشغولةً عنها، بمقولة
لساشا غتري: " ليس هناك من نساء غير
شريفات.. وأخريات شريفات. ثمة فقط، نساء غير شريفات.. وأخريات قبيحات!".



يومها غادرت الحمام، دون أن
يغادرني ساشا غتري تمامًا حتى أنني عدت
إلى البيت عصرًا تحت المطر. وأنا أستعيد إحدى مقولاته الساخرة: " لا تمارس
الحب مساء السبت.. إذ ما الذي تفعله لو أمطرت السماء صباح الأحد؟".



وهي غمزة ساخرة، عن الأزواج
الذين يمارسون الحب عن ضجرٍ جسدي مساء السبت، ثم لا يدرون بعدها، ماذا يفعلون
بأنفسهم طوال الغد، عندما يبقون في البيت.. في يومٍ ممطر!



ورغم أنه كان يوم سبت ممطرًا،
فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ، بكون السبت ليس نهاية أسبوع عندنا
بل بدايته. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، لكوني عائدة من حمام
نسائي أشعل شهوتي، وبي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل.



طبعًا.. لم أكن أدري أنه يكفي
أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسًا على عقب. ولا توقعت أن التاريخ سيـهدي إلى
الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشاذلي بن جديد، سيختار ذلك السبت
بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساءً من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحله
البرلمان.. ومن ثمة دخول البلاد في متاهة دستوريّة.



لم أعتب على الشاذلي بن جديد
إهداره ليلتها رغبتي.



فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها
من رغبات شعب.






قطعًا


وحده الزمن سيدلك على الصواب،
عندما يفقد الآخرون صوابهم.



أمّا التاريخ.. فلا تتوقع في
هذه الحالات أن يقول كلمته على عجل.



هو أيضًا ينتظر.


ثمانية وعشرون عامًا من
الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسبعين من عمره، ينزل. يمشي
على سجاد أحمر، مذهولاً من أمره.



أكان بين الوطن والمنفى مسافة
ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون عامًا ليقطعها؟!



رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما
هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً، وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه.



قبل قليل.


قبل التاريخ بقليل. كان اسمه
محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديـه اللتين اخشوشنتا
مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كلّ عمل سياسيّ. سوى ذكريات ثورة تنكّرت
له، وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات
نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثورة التحريرية.



اللّحظة لم يعد له اسم.


مذ خطا على تراب الوطن، أصبح
اسمه هو "التاريخ".



أليس التاريخ "هو ما
يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء"؟



الآن.. لم يعد له من عمر.


لقد أصبح له أخيرًا عمر
أحلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر.



الآن.. في هذا العمر، هو
يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليـه يوماً بحرية ولا بأمان. فقد طاردته
فرنسا فوقه أرضًا وجوًا. ولم تجد من سبيل لإلقاء القبض عليـه هو ورفاقه سوى خطف
طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر أجواء البحر الأبيض المتوسط، في رحلة تقلهم من المغرب
نحو تونس، فحوّلت وجهتها نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: أحمد بن
بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، أمام اندهاش
العالم الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي
ومظاهراته، والذي كان عبد الناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية، وملأه
عنفواناً وغروراً قوميًا.



حتى إن إذاعة صوت العرب من
القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم العربي بألحان حماسية تطالب
بإطلاق سراح الزعماء الخمسة، أناشيد تلقفتها أفواه أطفالنا، وحناجر رجالنا،
وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها:



"باسم الأحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا.."


كنّا نبكي.


ووحده التاريخ كان يضحك. فهو
وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد.



فما كادت الجزائر تنال
استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً، حتى أرسل بن بللّة وقد أصبح
رئيساً، من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران 1963، وهو يغادر بيته.
واقتيد بوضياف من مكان إلى مكان. حتّى انتهى به المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب
الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية الأول، قبل غيره، مهانة أن يكون لك وطن،
أقسى عليك من أعدائك.



وهو ما اكتشفه بعده بسنتين،
بن بللة نفسه. عندما جاءه بومدين ذات حزيران (أيضًا) من سنة 1965 فأزاحه من السلطة
ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر عامًا عجوزاً.



أمّا بوضياف الذي لم يطالب
يومًا بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح ليحرر وطنًا من الاستعمار، كي
يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى عنده الحاكمان.



يوم اختفى، لم يوجد من بين
رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به!



كانوا مشغولين عنه باقتسام
الوليمة.



فمضى بذلك القدر الهائل من
الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور.



تذكّروه، هكذا فجأة، بعد
ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا
تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك الدوليّ –مع كثير من التمني- لعدة أجيال فقط.



فقد كان الوحيد الذي ما زال على
ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس يومًا حول طاولة الصفقات المشبوهة
للسلطة.



كان لابد من اسمه ليعيد الثقة
إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليـه حكمًا بعد آخر، علي بابا
والأربعون حراميّاً.



جاؤوا به. قالوا له الكلمات
التي لم تصمد أمامها شيخوخته "الجزائر في حاجة إليك.. أنت الرجل الذي
سينقذها".



فقام العجوز. غسل يديـه من
طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا أنه لا يمكن أن تبني شيئاً
بالكراهية. وكان له مقدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من نفوه ومضى نحو "وطنه".



فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته
الجزائر ولم يستجب لندائها.



ها هو ذا..


يرتدي بذلة لم يتوقع أنه
سيرتديـها لمناسبة كهذه.



يتعلّم المشي أمامنا. يتعلم
الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى
السلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيأة لمثل هذا الدور.



ها هو ذا.. بوضياف.


يأتينا مشيًا على الأقدام،
مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية، وجيل لم يسمع باسمه قبل
اليوم. ولكنه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية.



ها هو ذا..


ليست أقدامه التي كانت تبوس
تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه، ويقبّل
حذاءه.



فلا تملك القلوب إلا أن تهتف:
أيـها التاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك.



كان يوم 14 يناير 1992 يومًا
استثنائيًا، حتى في طقسه. فقد توقفت فيـه الأمطار التي هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء
يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين، أو كأنها أرادت أن تتواطأ مع
التاريخ، وتهدي إلى بوضياف يومه الأجمل.



طوال الظهيرة، تعلقت عيون
الجزائر بشاشة التلفزيون؛ الكلّ يريد أن يرى ويسمع هذا الرجل الذي دخل حزب الصمت،
منذ ثلاثين سنة. ماذا تراه سيقول؟



الكلّ يريد أن يقبل، ولو بعينيـه،
هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي تناديـه قلوبنا اليوم
"أبي".



فمنذ موت بومدين ونحن يتامى.
نعاني إفلاسًا عاطفيًا، يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزًا وطنيًا في المحبة، يفوق عجز ميزانيتنا.



نحن نبحث عن رجل له قامة عبد الناصر،
وكلمات بومدين، ونزاهة بوضياف، رجل في بساطة أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على
أكتافنا، يقول لنا أشياء بسيطة نصدّقها. يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها،
يبكي أمامنا عن كلّ من ماتوا، دون أن يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن
موتاهم.. وللموتى عن اغتيال أحلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من
سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم.. بإذلال وطن.



يقول "الجزائر قبل كلّ
شيء" فيوقظ فينا الكبرياء.



وتصبح كلماته البسيطة شعارنا.


قطعــًــا.. منذ الأزل، كنّا
ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها
لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء".



وعندما سألته إن كان جاء إذن
بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر "إنه الواجب.. كلّ أملي أن
يمهلوني بعض الوقت".






في اليوم التالي استيقظت
المدينة بمزاج جاهز للجدل. واستيقظتُ بمزاج جاهز للكتابة، وكأنني لم أجد من طريقة
للاحتفاء بعودة بوضياف، سوى العودة إلى ذلك الدفتر.



فتحته حيث توقف بي الحبّ.
وتوقف بي الحبر، منذ أربعة أشهر، عند قبلة.



كانت نيتي أن أكتب شيئًا عن
الحاضر، أن أصف اندهاشي الجميل أمام بوضياف.



ولكن كانت عواطفي تلوي عنق
قلمي نحو الماضي، وتوقظ داخلي رجلاً آخر، رجلاً أكاد لا أفتح هذا الدفتر حتى يحضر.



رجل قال لي "تمنّيت أن
أموت وأنا أقبلك. إذا كانت كلّ القبل تموت. فالأجمل أن نموت أثناء قبلة".



ورحل.


من وقتها، وأنا أغذي الذاكرة
بكلماته المحمومة. كي لا تنطفئ في انتظاره نيران الجسد.



أهي الرغبة؟ أم حاجة إلى
الكتابة؟ أم.. قدر يجعل دائمًا كلّ قصة فردية، موازية لقصة جماعية، لا ندري أيتهما
تكتب الأخرى؟



وإلا فما تفسير تلك المفاجأة
التي كانت تنتظرني بعد ثلاثة أسابيع من عودة بوضياف؟



وإذا بي، أنا التي لم يفارقني
هاجس اللّقاء به، في كلّ مكان ذهبت إليـه أو مررت به، أعثر عليـه حيث لم أتوقعه،
في بيتي، على صفحات جريدة مهملة.. ملقاة عند أقدام مكتب زوجي!



أحبّ تلك الهدايا التي تقدمها
لك الحياة، خارج المناسبات، فتقلب بمصادفة حياتك، حتى تلك ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رواية فوضى الحواس أحلام مستغانمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية : أرض الرعب .. رواية رعب مشوقة !
»  ذاكرة الجسد......................احلام مستغانمي
» رواية امراة عاشقه
» تحميل جميع روايات أحلام مستغانمى
» الى كل عشاق المطالعة الروايه الرائعة ذاكرة الجد للاديبة احلام مستغانمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى ملكات تلمسان  :: الساحه المرح :: قسم روايات و قصص و هوايات-
انتقل الى: