الرحمن الرحيم اﻻبتﻼء من سنن الله الظاهرة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واﻷنبياء من قبله، فليس البﻼء قاصراً على أحد، وإن تباينت صوره و تفاوتت مراتبه ومراتب الناس فيه تبعاً لذلك، وما ادعى أحدٌ إيماناً بالله ـ عز وجل ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إﻻ كان له نصيب من اﻻبتﻼء، قال الله تعالى: {*وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَﻻ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ*}(اﻷنعام:34)، وقال: {*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ ﻻَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ*}(العنكبوت: 2 : 3)، وقال: {*أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَﻻَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}(البقرة: 214) . وعن*مصعب بن سعد*عن أبيه قال: (*قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بﻼء؟، قال: اﻷنبياء، ثم اﻷمثل، فاﻷمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بﻼؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البﻼء بالعبد حتى يتركه يمشي على اﻷرض وما عليه خطيئة*) رواهأحمد*.*
لقد تعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للكثير من اﻷذى والمحن في مواقف متعددة من حياته، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وتعرضت له وﻷصحابه بالسخرية واﻹيذاء، وحوصر مع أصحابه ثﻼث سنوات في شِعب أبي طالب،*الذي ﻻقوا فيه الجوع والحرمان، والنَصَب والتعب الشديد ..*ومع ذلك كله فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماض في طريق دينه ودعوته، صابر ﻷمر ربه، إشفاقا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب اﻷمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة*للمسلم في كل زمان ومكان في الصبر على البﻼء .
وسُنة اﻻبتﻼء في حياة وسيرة*النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعبر عنها*ورقة بن نوفل*في أول يوم من أيام النبوة حين قال: (*يا ليتني فيها جذعا*( ليتني أكون حيا )*إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إﻻ عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي*) رواه*البخاري*.*
وعن*عروة بن الزبير*ـ رضي الله عنه ـ قال: (*سألت*ابن عمرو بن العاص:*أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: بينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في حِجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل*أبو بكر*حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقال: أتقتلون رجﻼ أن يقول ربي الله؟*) رواه*البخاري*.*
وعن*عمرو بن ميمون*ـ رضي الله عنه ـ قال: (*بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور باﻷمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فﻼن فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر ـ لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر*فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صﻼته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثﻼثا، وإذا سأل سأل ثﻼثا، ثم قال: اللهم عليك بقريش ـ ثﻼث مرات ـ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته*) رواه*البخاري*.*
وعن*أنس بن مالك*ـ رضي الله عنه ـ قال: قال ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: (*لقد*أوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثةٌ وما لي ولبﻼل*طعام يأكله ذو كبد، إﻻ ما وارى إبط*بﻼل*) رواهالترمذي*.
ابتﻼء وتفاؤل :
مواقف اﻷذى واﻻبتﻼء التي تعرض لها صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة ومتعددة، ﻻقوا فيه أشد أصناف العذاب، ويصور لنا*خباب*ـ رضي الله عنه ـ مدى اﻷذى والبﻼء الذي تعرضوا له حين قال : (*شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: أﻻ تستنصر لنا؟، أﻻ تدعو الله لنا ؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في اﻷرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا اﻷمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ﻻ يخاف إﻻ الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون*) رواه*البخاري*.*
هذا اﻷسلوب في الطلب من*خباب*ـ رضي الله عنه ـ حين قال: " أﻻ تدعو لنا؟ أﻻ تستنصر لنا؟ " يوحي بما وراءه، وأنه صادر من قلوب وأبدان*أنهكها العذاب، فهي تلتمس الفرج والنصر*العاجل، ومع ذلك أعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه أن اﻻبتﻼء سنة من سنن الله في خلقه، فقال*لخباب: (*كان الرجل فيمن قبلكم*) .*
لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع البﻼء الواقع عليه، يشعر بما يعانيه أصحابه من أذى وبﻼء، ويتألم له، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يربي أصحابه ومن يأتي بعدهم على أن اﻻبتﻼء من سنن الله، وأنه قبل النصر ﻻبد من البﻼء والصبر، فالرسل وأتباعهم يُبْتلون ثم تكون لهم العاقبة، قال الله تعالى: {*حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَﻻَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ*}(سورة يوسف، اﻵية:110) .
ومع تربيته ـ صلوات الله وسﻼمه عليه*ـ ﻷصحابه على الصبر على اﻻبتﻼء، كان يبث التفاؤل والثقة في قلوبهم، ويفيض عليهم مما أفاض الله عليه من أمل مشرق في انتصار اﻹسﻼم وانتشاره، فمن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (*والله ليتمن هذا اﻷمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ﻻ يخاف إﻻ الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون*)، وقوله: (*ليبلغن هذا اﻷمر ما بلغ الليل والنهار، وﻻ يترك الله بيت مدر وﻻ وبر إﻻ أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به اﻹسﻼم، وذﻻ يذل الله به الكفر*) رواهأحمد*.
من حِكم اﻻبتﻼء :
قد يظن البعض أن نزول البﻼء عﻼمة على الله، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى ذلك، وجعل البﻼء عﻼمة على حب الله لعبده، فعن*أنس بن مالك*- رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (*إن عِظم الجزاء مع عظم البﻼء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتﻼهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط*) رواه*الترمذي*. واﻻبتﻼء فيه تمحيص وتنقية للصف المسلم من المنافقين، وتمييز للخبيث من الطيب، قال الله تعالى: {*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ}(العنكبوت: 3)، وقال: {*مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ*}(آل عمران: من اﻵية179) .*
ثم إن قيادة البشرية واﻷخذ بيدها إلى نور الهداية والخير يحتاج إلى جيل فريد، ﻻ يهتز أمام اﻻبتﻼءات، وﻻ يضعف أمام المحن، وﻻ شك أن ذلك يحتاج إلى رجال مؤمنين صادقين، صابرين محتسبين، ثابتين على الحق ﻻ يستعجلون الثمرات والنتائج، رجال قال الله عنهم: {*مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيﻼً}(اﻷحزاب:23) .
كما أن لﻼبتﻼء فوائد كثيرة، منها: التحلي باﻹنابة إلى الله، واﻹقبال عليه، واﻹكثار من التضرع والدعاء، والتطهر من الذنوب والخطايا، فعن*أبي سعيد الخدري*ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (*ما يصيب المسلم من نصب وﻻ وصب، وﻻ همّ وﻻ حزن، وﻻ أذى وﻻ غمّ، حتّى الشّوكة يشاكها، إلّا كفّر الله بها من خطاياه*) رواه*البخاري*.
قال*المناوي*في فيض القدير : (*ما من مصيبة*) أي : نازلة، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر، (*إﻻ كفر الله بها عنه*) ذنوبه، أي محي خطيئاته بمقابلتها " .*
وقال*ابن حجر*في كﻼمه على الحِكم من ابتﻼء المسلمين في غزوة أحد : " قال العلماء: ومنها: أن عادة الرسل أن تُبْتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين اﻷمرين لتمييز الصادق من الكاذب .. ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس، وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون .. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته ﻻ تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب اﻻبتﻼء والمحن ليصلوا إليها " .
إذا كان اﻹيذاء واﻻبتﻼء قد نال رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، فلم يعد هناك أحد لفضله أو علو منزلته أكبر من اﻻبتﻼء والمحن، فتلك سنة الله مع اﻷنبياء والمؤمنين، وعلى ذلك ربى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، ومن ثم فينبغي على المسلم الثبات على دينه ودعوته، فﻼ يضعف أو يحيد عن طريق الله إذا ما عانى شيئا من اﻷذى واﻻبتﻼء، فقد سبقه في ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وليعلم أنه كلما اشتد الظﻼم أوْشك طلوع الفجر، وكلما ازدادت المحن واﻻبتﻼءات، قرب مجيء النصر، وهذا درس من دروس السيرة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {*حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَﻻ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ*}(يوسف:110) ..*
*
*